لعلَّ ما ذكره ريتشارد دوكينز في كتابه الجينة الأنانية (The Selfish Gene) أنّ الواقع يقول بأننا بُرمجنا لنكون أنانيين وسيئين هي مقولة صحيحة، ولكننا يجب أن نستغل قدرتنا بالثورة على طباعنا للتحكّم في أنانيتنا، لا سيّما في المجال العلمي الموضوعي، الذي من الممكن أن يبتعد عن المنهج العلمي قليلًا لأن الباحثين هم في النهاية بشر.

بدايةً، ما هو التحيُّز العلمي (Scientific Bias)؟

يُطلق عليه في الأوساط العلمية أيضًا اسم التحيُّز البحثي أو التحيٌّز المختبري، وهو العملية التي يؤثر بها العلماء الذين يقدمون البحث على النتائج، من أجل الحصول على نتيجة مُعينة.

يظهر التحُّيز أحيانًا كنتيجةٍ لخطأ في التجربة أو فشل العلماء في أخذ كل المتغيرات الممكنة بعين الاعتبار، ويحدث بعضه الآخر عندما يختار العلماء عيّنات أكثر ملائمة لتُظهر النتائج المرغوبة عند القيام بالتجربة، وهذا معاكس تمامًا لمبادئ الاختيار العشوائي الضرورية في أي عينة إحصائية.

التحيُّز هو العامل الوحيد الذي يجعل البحث الكَيفيّ (qualitative research) يعتمد على الخبرة والحكمة أكثر من اعتماده على البحث الكيفي نفسه.

كيف يحصل التحيّز مع الباحثين؟

إن أي خلل أو خطأ في أي خطوة من خطوات المنهج العلمي ستؤدي إلى التحيّز وانعدام الحياد والموضوعية في البحث، ومن الأمور التي تؤدي لذلك:

قصر بصر الفرضية Hypothesis myopia:

يتربص هذا الفخ بالمراحل الأولى من البحث؛ حيث يركّز الباحثون أو المحققون بصرهم على جمع الأدلة التي تدعم فرضية ما، متجاهلين البحث عن أدلة تعارضها؛ ويفشلون في التفكير جدّيًّا بالتفسيرات الأخرى.

يقول جوناثان بارون، عالم نفس في جامعة بنسلفانيا: «اعتاد الناس على طرح أسئلة تعطي جواب “نعم” في حال كانت فرضيتهم المفضلة صحيحة».

أسطورة رامي تكساس الماهر The Texas sharpshooter:

فخٌّ آخر قد يقع فيه الباحث في مرحلة تحليل المعلومات في البحث، يتمثّل بأسطورة معروفة في الوسط العلمي باسم رامي تكساس الماهر: وهي تحكي عن رامٍ أحمق يقوم بالإطلاق عشوائيًا على الجدار الجانبي لإصطبل، ويرسم دائرة الهدف حول المكان الذي أصابه، ثم يشير بكل فخر إلى نجاحه بإصابة الهدف.

من الواضح أن هذا يبدو مضحكًا، لكن هذه المغالطة ليست واضحة عند الكثيرين ممّن يؤمنون باليد المحظوظة التي حققت سلسلة من النجاحات العديدة، أو للناس الذين يرون بأن هناك أهميّة خارقة للطبيعة في ألعاب الحظ.

والأمر نفسه عند الباحثين، حيث يتشجّع الباحث عندما يجد كل هذه البيانات أمامه، ويقوم بالبحث في اتجاه معين واحد، بدون الانتباه أن لديه عددًا من الخيارات الأخرى المختلفة، ويكون قد اختار الخيار الذي يعطيه النتائج الأكثر قبولاً وأهمّية، وعندها يقع في فخ التحيُّز البعيد عن الموضوعية العلمية.

الاهتمام اللامتناظر Asymmetric attention:

مرحلة معالجة البيانات تحمل فخًّا آخر: الاهتمام اللامتناظر للتفاصيل.

أحيانًا يدعى بالتحيُّز غير المؤكّد، ويحدث هذا عندما نعطي النتائج المتوقعة أفضلية نسبيّة، ونفحص بصرامة النتائج غير المتوقعة.

عندما يتوصّل الباحثون إلى نتائج مخالفة للتخمينات السابقة، يقولون لأنفسهم: “أوه، هل قمت بخطأ ما؟”، ولا يدركون أنّ عليهم على الأغلب أن يصححوا بعض التخمينات السابقة تلك.

الباحث كراوي قصص بالضبط Just-so storytelling:

في مرحلة جمع وتحليل المعلومات، يقع الباحثون عادةً ضحية لرواية القصص؛ وهي مغالطة تحدث عندما يقوم الباحثون بإعطاء تفسيرات للظواهر بشكل غير موضوعي الشيء الذي يجعلهم يقعون في فخ التحيُّز، وتكون بالنهاية تفسيراتهم غير حقيقية.

الآن، كيف يتجنّب العلماء الوقوع بالتحيُّز؟

يقول سول بيرلمتر (Saul Perlmutter) عالم الفلك في جامعة بيركلي: «ينسى الناس أنه عندما نتكلّم عن المنهج العلمي، فنحن لا نقصد مُنتجًا تامًّا.

العلم هو سباق مستمر بين طرقنا في الاختراع لخداع أنفسنا، وطرقنا في الاختراع لتجنُّب خداع أنفسنا»، لذا فالباحثون والعلماء يجربون عدة طرق إبداعية لعدم تحيُّز تحليل البيانات، تلك الإستراتيجيات التي تتضمن التعاون مع منافسين أكاديميين، والحصول على أوراق بحثية مقبولة قبل أن تبدأ الدراسة حتى، والعمل مع البيانات المُلفّقة بشكل ممنهج.

ومن تلك الإستراتجيات:

الشفافية Transparency :

من الحلول المثيرة للاهتمام هو العلم المفتوح.

من خلال هذه الفلسفة، يشارك الباحثون مناهجهم، معلوماتهم، تراميز حواسبهم ونتائجهم في مخازن مركزية، مثل نظام مركز العلم المفتوح Center for Open Science، حيث بإمكانهم أخذ واختيار ما يريدونه لإنشاء الأجزاء المتنوعة من موضوع المشروع من أجل الفحص خارجًا.

بهذه الطريقة استطاع الباحثون إجراء اختباراتهم وتجاربهم بمرونة أكثر وتجنبوا الكثير من التحيُّزات.

فريق من المتنافسين Team of Rivals:

عندما يتعلّق الأمر بالمواضيع الجدلية والمتكررة، أسلوب جيد لإلغاء التحيّز هو تجنّب الذهاب والإياب الأكاديمي النمطي واستبداله بدعوة الباحثين المنافسين للعمل معهم.

التعاون مع الخصوم له محاسن أكثر من النمط المعتاد.

يقول دانييل كانمان، عالم النفس في جامعة برينستون في نيوجرسي: “عليك أن تفترض بأنك لن تغيّر تفكير أي أحد بشكل كامل، لكن بإمكانك أن تحول ذلك إلى نقاش مهم وحوار ذكي يجعل من الناس ينصتون ويقيّمون”.

تحليل البيانات الأعمى Blind Data Analysis:

الفكرة بأن الباحثين الذين لا يعرفون كم هم قريبون من النتائج المرغوبة سيكونون أقل عرضة على الأرجح للتوجه نحو إيجاد ما يبحثون عنه بدون وعي.

وكيفية القيام بذلك تكون بكتابة برنامج فيه مجموعة معطيات بديلة، على سبيل المثال، إضافة تداخل عشوائي أو تعديل خفي، نقل المشاركين بالبحث لمجموعة اختبار مختلفة أو إخفاء التصنيفات الديموغرافية.

يتناول الباحثون مجموعة المعطيات الكاذبة على أنها عادية، يزيلون العوائق من المعلومات، يعالجون المعلومات، ويبدأون بالتحليلات.

الحواسيب بعدها تعالج بأمانة كل ما يقوم به العلماء من أفعال، ومن الممكن ان تكتب الحواسيب النتائج. وبهذه الحالة لا يعرف الباحثون إن كان عملهم هذا كنزًا علميًّا أم مجرد هراء.

وعندها سيكون مع الباحثين نتائج صحيحة وواقعية، وأي عملية تعديل على النتائج بعد ذلك ستكشف وتبدو عملية غش فاضح.

إن ضرورة العلم في مجتمعنا وأهميته في كل شيء من حياتنا يضعان على عاتق العلماء عبئًا كبيرًا، فأي تحيُّز بعيد عن الموضوعية من الممكن أن يضيع الحقيقة العلمية ويجعل الطريق الذي يفصل المعرفة البشرية عن الحقيقة أطول.

ولهذا اعتمدت مراكز البحث العلمي الكثير من الأساليب لتجنّب الوقوع بهذه التحيّزات، وكذلك فإن كلّ المجلات العلمية تخضع لتحكيم دقيق من قبل علماء موضوعيين وحياديين.