أرضُنا لن تبقى صالحة للعيش إلى الأبد، هذا شيء نعلمهُ جميعنا، ولا مفرّ منهُ مهمَا بلغت حدّة طموحنا. قد يبقى جنسنا البشري على قيد الحياة طوالَ تلك الفترة، لكي يشهدَ نهاية موطننا وأيامه الأخيرة، كما أنّ احتمال انقراضنا قبل حدُوث ذلك يبقى واردًا أيضًا.

لكن، العلماء اليوم يبحثون بجديّة عن موطنٍ احتياطي في حال حدُوثِ مصيبة على الأرض، سواءًا أكانَ ذلكَ بعد مئات الملايين من السنين، أو حتّى في القرون القليلة القادمة.

استصلاح الكواكب، ما هو احتمال سماعك بهذا المُصطلح من قبل؟ قد يكون ذلك في إحدى قصص الخيال العلمي دون شك.

على كل حال، في السنوات الأخيرة وبفضل الإهتمام الشديد باكتشاف الفضاء، تم طرح هذا المُصطلح للنقاش في نطاق أكثر جديّة. وبدلَ أن نقول أنّ استصلاح الكواكب وأراضٍ جديدة هو أمر بعيد المنال، أصبح ذلك مُمكنًا في المُستقبل القريب، على الأقل من الجانب النظري علميًا.

إنّه إيلون ماسك (Elon Musk) رجل الأعمال المُثير للجدل، والمهتم بالعلم واكتشاف الفضاء، الذي يصنعُ الحدثَ عندمَا نتحدث عن “الموطن الاحتياطي”. فقد صرّح ماسك مؤخرًا أنّ البشرية بحاجة إلى ذلك من أجل ضمان بقائها. من جهةٍ أخرى، مشاريع خاصة مثل مارس-وان (MarsOne) ترى النّور، وهي تبحثُ إرسال البشر إلى كوكب المريّخ دون عودة من أجل استعمار الكوكب الأحمر. أو حتّى حديث ناسا و الوكالة الأوروبية للفضاء ESA عن مشاريعها طويلة الأمد، من أجل إرسال بشر إلى المرّيخ والقمر. “استصلاح الكواكب” هو مفهوم آخر ينتقلُ من مجال الخيال العلمي إلى الواقع.

لكن لنفسح المجال الآن أمامَ التساؤلات المشروعة، مالذّي يستلزمُه استصلاح الكواكب؟ إلى أين سيأخذنا استعمال هذه العمليّة؟ ما نوعُ التكنولوجيا التي سنحتاجها؟ هل هذه التكنولوجيا موجودة فعلًا، أم أنّه علينا الإنتظار؟ كم ستكون مكلّفة إذا تحدّثنا عن الموارد؟ وفوق كلّ شيء، ما هي احتمالات نجاحها؟

إنّ الإجابة على كل هذه الأسئلة تحتاجُ إلى بعضٍ من البحث العميق. ليسَ بسبب قِدَمَ وجودِ مفهوم استصلاح الكواكب، بل يتضّحُ لنا أيضًا، أنّ للبشريّة بعضًا من الخبرة في هذا الشأن.

أصل المُصطلح :

ببساطة شديدة، إنّ استصلاح الكواكب أو العوالم هوَ عمليّة تبديل بيئة مُعادية (غير صالحة للحياة) في كوكب ما (مثلاً : كوكب شديد البرودة، أو شديد الحراة، أو/و لهُ جوّ غير قابل للتنفس من طرف البشر) إلى بيئة تسمحُ بالحياة البشريّة عليها. وهذا قد يتضمّن تغيير درجة الحرارة، الغلاف الجوّي، تضاريس السّطح والبيئة، من أجل جعلِ الكوكب أو القمر “شبيهًا بالأرض” إلى أبعد حدّ مُمكن.

هذا وقد تمّت صياغةُ المصطلح من طرف كاتب الخيال العلمي الأمريكي جاك ويليامسون (Jack Williamson) الذي أطلق عليه لقب “عميدُ الخيال العلمي”.

وظهرَ المُصطلح كجزءٍ من قصة خيال علمي عنوانها “مدار التصادم – Collision Orbit” نُشرت في إصدار 1942 من مجلّة “الخيال العلمي المُذهل – Astounding Science Fiction”. وكان هذا الظهُور الأوّل المعروف للمفهوم، لكن هنُاك العديد من الأمثلة على اعتمادِ مضمونه في أعمال الخيال العلمي الأدبيّة سلفًا.

استصلاح الكواكب في الخيال العلمي :

إنّ مجال الخيال العلمي مليءٌ بالأمثلة عندَ الحديث عن التدّخل في بيئات الكواكب لجعلها أكثرَ مُلائمةً للحياةِ البشريّة، الكثير من هذه الأعمال سبقت البحوث العلميّة الجديّة بعقود كثيرة. على سبيل المثال، ذكرَ هربرت جورج ويلز (H.G. Wells) في روايته «حربُ العوالمْ» التي صدرت سنة 1898، كيفَ قام الغُزاة المرّيخيون بتحويل بيئة الأرض لهدفِ جعلها قابلة للسكن على المدى البعيد.

أمّا الكاتب البريطاني اولاف ستابيلدون (Olaf Stapledon) في رواية «آخِر البشر وأوّلهم» الصاردةِ سنة 1930، فقد خصّص فصلين لوصفِ كيفَ قامَ أحفادُ البشر باستصلاح كوكب الزّهرة بعدَ أن أصبحتِ الأرضُ غير قابلة لاحتضانِ الحياة عليها.

ومع بدايةِ الخمسينات من القرن الماضي إلى الستينات، وهيَ الفترة التّي أطلِقَ عليها “عصرُ الفضاء” نظرًا لكثرة الإنجازات البشريّة في هذا المجال بدايةً من النّزول على سطحِ القمر، أصبحتْ مادّة استصلاحِ الكواكب أكثر استعمالًا في مجال الخيال العلميّ بشكلٍ كبير.

من أمثِلةِ ذلك رواية « مُزَارِع فِي السّمَاءْ» للكاتب روبرت أنسون هيينلين (Robert A. Heinlein) سنة 1950. ففي هذا العملِ الأدبيّ يعرضُ الكاتب نظرةً على القمر العملاق لكوكب المُشتري “جانيميد” الذّي تمّ تحويلهُ إلى مستوطنة زراعية بشريّة.

لقد كان ذلكَ العملُ بالغَ الأهميّة، فقد طُرحَ فيه مفهوم استصلاح الكواكب لأوّل مرّة كمسألةٍ علميّة جديّة، عكسَ الأعمالِ السابقة التي اعتدمتْ على المادّة الأدبية وكانتْ تتحدّثُ عن مجرّد خيال.

a11

لنتقدّم بالزّمن قليلًا الآن إلى التسعينات، حيثُ أصدَر كيم ستانلي (Kim Stanley) ثلاثيّتهُ المشهورة التي تتحدّثُ عن استصلاح الكوكب الأحمر.

وتُعرَفُ باسم “ثلاثيّة المرّيخ” بعناوينها الثلاثة ــ المرّيخ الأحمر، المرّيخ الأخضر والمرّيخ الأزرق ــ هذه السلسلة من الأعمال الروائيّة تركّزُ على قضيّة استصلاح كوكب المرّيخ عبرَ أجيالٍ عديدة وصولًا إلى حضارة بشريّة مُزدهرة على ذلك الكوكب.

وقد انتظرَ كيم حتّى سنة 2012 من أجلِ اسدالِ الستّار عن رواية ” 2312″ التّي تتحدثُ بدورها عن استعمارِ المجموعةِ الشمسيّة، بما في ذلكَ استصلاح كوكب الزّهرة وكواكِبَ أخرى. وتبقى الأمثلةُ في هذا الصدد لا تُعدّ ولا تُحصى في الثقافة الشعبيّة البشريّة، من الأعمال التلفزيونيّة إلى الأدبية منها، ومن الأفلام إلى ألعابِ الفيديو.

دراسةُ استِصلاح الكواكِب :

في مقال نُشرَ على مجلّة ساينس (Science) سنة 1961، اقترحَ عالمُ الفلك الغني عن التّعريف كارل ساجان (Carl Sagan) استعمال تقنيّات الهندسة الكوكبيّة من أجلِ تحويل كوكب الزّهرة. ويتضّمنُ اقتراحهُ زرعَ الطحالب من أجل تغيير الجوّ على الكوكب، فمن خلال ذلكَ قد تتحوّل الإمدادات الجوّية للماء، وهذا من شأنهِ تخفيض ظاهرة الإحتباس الحراري للزّهرة.

عادَ كارل مُجدّدًا سنة 1973 لينشُرَ مقالًا في مجلّة إيكاروس (Icarus) تحتَ عنوان «هندسة كوكبيّة على المرّيخ» حيثُ اقترحَ فيها طريقتين لتحويل كوكبِ المرّيخ. من ضمنهَا إمكانية نقل مواد قليلة الوضاءَة أو غرس نباتات داكنة في القمم الجليدية الموجُودة في قطب الكوكب، من أجلِ ضمان امتصاصها للحرارة، وتحويل الكوكب إلى “شبيهٍ بالأرض”.

أمّا في سنة 1976، دخلت وكالة ناسا على الخط، وعرضتْ قضيّة هندسة الكواكب رسميًا على الدراسة في بحث عنوانه «حولَ السكن في المرّيخ : مقدّمة في التخليق البيئي الكوكبي». وقد اقترحت الدراسة أنّ كل من الكائنات الضوئيّة، ذوبان جليد القمم القُطبية وإضافة الغازات المُسبّبة للإحتباس الحراري، كلّها أسبابٌ من شأنها خلق غلاف جوي أكثرُ سخونةً، وغنيّ أكثرَ بالأكسجين و الأوزون. وقد أقِيمَ في نفسِ السنة أوّل مؤتمر خاص باستصلاح الكواكب رغمَ الإشارة إليهِ بمصطلح “النمذجة الكوكبيّة”.

بعد ذلكَ بثلاثِ سنوات، قامَ مهندس وكالة ناسا جيمس أوبيرج (James Oberg) بتنظيمِ أوّل ندوة أكاديميّة لاستصلاح الكواكب ــ وكانَ ذلك في جلسة خاصة بمُناسبةِ المؤتمر العاشر لعلومِ الكواكب والقمر، التي تُعقدُ سنويًا في مدينة تكساس الأمريكيّة.

أمّا في سنة 1981، فقد روّج أوبيرج للمفهوم موضوعِ الندوة سالفةِ الذّكرْ في كتابهِ الجديد آنذاك «أراضٍ جديدة : إعادة هيكلة الأرض وكواكبَ أخرى».

بحلول عام 1982 قام العالم المُختص في الكواكب كريستوفر مكّاي (Chrisopher McKay) بكتابة ورقة علميّة بعنوان «استصلاح المرّيخ» ونُشرتْ في مجلّة جمعيّة علوم الكواكب البريطانيّة.

وناقش مكّاي في هذا البحث آفاق التنظيم الذّاتي للمُحيط الحيوي الخاص بكوكب المرّيخ، وتضمّنَ ذلك الطُرق المتاحة من أجل إتمام العمليّة وكذلكَ جانبها الأخلاقي. وكانت هذه المرّة الأولى التي استخدم فيها مفهوم “استصلاح الكواكب” في عنوان مقال علميّ منشور رسميًا، ومن ذلكَ الحين، أصبحَ هو المصطلح المفضّل.

وتبعَ ذلك كتاب «تخضيرُ المرّيخ» للباحثين جيمس لوفلوك (James Lovelock) و مايكل آلابي (Michael Allaby) الصادرِ سنة 1984. وكان من الكُتب الأولى التي وصفت طريقة جديدة لرفع درجة حرارة المرّيخ، حيثُ تضاف مركبّات الكلوروفوركاربون (CFCs) إلى الجوّ من أجل التسبب في احتباس حراريّ شامل على الكوكب. حفّزَ هذا الكتاب عالم الفيزياء الحيويّة روبرت هاينز (Robert Haynes) لترقية استصلاح الكواكب كجُزء من مفهوم أوسع يُعرف بـالتخليق البيئي ــ Ecopoiesis.

وقد جاءَ المُصطلح من الكلمة اليونانيّة ” oikos” التي تعني (“منزل”) و ” poiesis” التي تعني بدورها (“إنتاج”)، وتشيرُ هذه الكلمة إلى أصل نظام بيئيّ مُعيّن.

في سياق استكشاف الفضاء، ذلكَ يدخُل ضمن نطاق الهندسة الكوكبيّة، حيثُ يتمّ خلق نظام بيئي مُعتدل ومستدام في كوكب لهُ بيئة مُعادية لا تسمحُ بالحياة عليها. وكما وصفَ هاينز في أعماله، ذلكَ يبدأ بزرعِ حياة ميكروبية على الكوكب ونشرهَا عليه، وهذا ما يقودنا إلى خلق ظروف قريبة من تلك التي كانتْ عليها الأرضُ البدائيّة. وهذا يتبعهُ استيراد الحياة النباتيّة من الأرضِ وزرعهَا هنُاك من أجل تسريعِ عمليّة إنتاج الأكسجين، لننتهيَ بإضافة الحياة الحيوانيّة.

في سنة 2009، قام كينيث روي (Kenneth Roy) ــ مهندس بوزارة الطاقة الأمريكية ــ بتقديم مفهومهِ الجديد في هذا المجال “عالمُ الصَّدَفَة” في ورقة علميّة نُشرت في مجلّة جمعيّة علوم الكواكب البريطانيّة.

وحملَ البحثُ عنوان «عالمُ الصَّدَفَة ــ مقدّمة في استصلاح الأقمار، الكواكب الصغير و الكويكبات»، وقد عرضَ الباحثُ إمكانيّة استعمال “صَدَفة” كبيرة من أجلِ العيش على كوكب آخر، بالحفاظِ على الجوّ الداخليّ مُلائمًا معَ ترك التعديلات طويلة الأمد تأخذُ مجراها في نفس الوقت على البيئة الخارجيّة.

التحدّيات المتوقّعة :

عندَ الدُخول في صلب الموضوع مُباشرةً للحديث عن إمكانية تحقيق كلّ السيناريوهات المذكورة سابقًا، كلٌ منها يعاني من مُشكلة أو أكثر من اللائحة التاليّة :

  1. هي مُستحيلة بالتكنولوجيا الموجودة حاليًا.
  2. تتطلّبُ حشدًا هائلًا للموارد.
  3. السيناريو الذي يحلّ مُشكلة ما، يخلق أخرى في المقابل.
  4. عوائد الاستثمار فيها غيرُ جديرة بالإهتمام.
  5. كلّها تتطلّبُ زمنًا طويلًا للتّجسيد، زمنًا طويلًا جدًّا !

وكمثالٍ على ذلك، كل الآراء التي تتحدّثُ عن استصلاح الزّهرة و المرّيخ تتضمنُ منشآت لا وجودَ لها حاليًا وسيكون من الباهضِ جدًّا صناعتها.

مثلًا، مفهوم “الظل المداري” الذي من شأنهِ تبريد كوكب الزّهرة، يتطلّبُ إنشاءَ هيكلٍ ضخم يفوق قُطره قُطرَ كوكب الزّهرة بأربعِ مرّات. هذا يتطلّب تحضيرَ آلافِ الأطنان من المواد، ويجبُ أنّ يتّمَ تجميعُها كلّها في موقع واحد.

خاتمةُ الحديث :

إذن.. بعدَ النظرِ إلى كلّ تلك الأماكن التي بإمكان البشريّة غزوها واستصلاحهَا، مالذّي يجبُ فعله لجعلَ ذلكَ حقيقةً، مع الأخذِ بعين الإعتبار كلّ الصعوبات والعراقيل التي قد تواجهُنا نحوَ تحقيق الهدف، ونحنُ نقف الآن أمام سؤال في غاية الأهمية.

لماذا يجبُ علينا فعلُ ذلك؟ نحنُ نفترض أنّ وجودنَا ليس مُهدّد حاليًا، ما هي الحوافزُ التي قد تدفعُ البشريّة لأن تُصبح “حضارةً بيكوكبيّة” أو حتَّى “حضارة بينجميّة”؟

ربّما أنّنا لا نملكُ سببًا وجيهًا حاليًا. ذلكَ سيكون مثلَ إرسال روّادِ فضاءٍ إلى القمر، غزو السّماء، أو تسلّق أعلى قمة على كوكب الأرض، استعمار كواكب أخرى قد لا يكون سوَى شيء نشعُرُ أنّنا مجبرون على فعله. لماذا؟ لأنّهُ باستطاعتنا ذلك ! هذا السّبب كان كافيًا في السّابق، وقد يكون الأمرُ كذلك مُجدّدًا في المُستقبل القريب.

هذا الأمرُ لا يجبُ أن يثنينَا عن الإهتمام بالجانب الأخلاقيّ للقضيّة، بالنّظرِ إلى التكلفة الخياليّة المُتطلبّة لإنجازِ مثل هذا النوع من المُهمّات، أو حتّى عندَ حديثنا عن الخلفيّة الإقتصادية للعمليّة باعتبار الفارقِ بين التكلفة و الفوائد. لكن مع ذلك، قد نجدُ أنّنا مجبرون على مُغادرةِ هذا المكان على أيّ حال، ببساطة لأنَّ الأرضَ أصبحتْ في غايةِ الازدحامْ بالنّسبة لنا، كمَا أنّها لن تبقى هُنَا طوالَ الوقت دون شك !


المصدر