اكتشف إرنست رذرفورد نواة الذرة عام 1911. هذا ما نقرؤه في الكتب المدرسية والمؤلفات العامة. ولكن ماذا تعني هذه العبارة تحديداً؟
الاكتشاف الجغرافي يعني أن شخصًا ما يرى مكانًا لأول مرة. ولكن هل يمكن أن يكون الاكتشاف هو نفسه لعالم غير مرئي؟
فنحن مثلًا لا يمكننا أن نرى الذرة. بالتالي فهذا قد يشير بشكل أو بآخر إلى أن اكتشاف النواة كان أمرًا معقدًا بعض الشيء.

إن عدنا إلى بدايات القرن العشرين، نجد أن العلماء وقتها كانوا يعتقدون أن الذرة هي جسم صلب واحد.
لكن الأمر تغير بعد أبحاث إرنست راذرفورد.
راذرفورد هو فيزيائي نيوزيلندي، كان بمثابة المحطة الفاصلة في مجال الأبحاث الذرية.
تركزت أبحاثه على مجالات النشاط الإشعاعي.

وصل راذرفورد إلى مانشستر في صيف عام 1907، قبل شهور من بدء الفصل الدراسي في الجامعة.
تسلم راذرفورد في جامعة مانشستر منصبًا خلفًا لآرثر شوستر (1851-1934) الذي تقاعد عن عمر يناهز 56 عامًا.
شوستر بنى مركزًا للفيزياء الحديثة، وتعاون مع هانز جايجر (1882-1945) الحاصل على دكتوراه، لما يتمتع به من مهارات تجريبية، وتبوأ مكانة جديدة في الفيزياء الرياضية ليهيء برنامجًا فيزيائيًا متكاملًا.
راذرفورد أصبح فردًا من هذا المركز. وتوافد الباحثون إليه بالعشرات.
في البداية، كان في ذهن راذرفورد أسئلة كثيرة. عمل راثرفورد مع الفيزيائي بيرترام بولتوود ما بين عاميّ 1909 و1910، كما عمل مع الكيميائي الألماني “أوتو هان” ما بين عاميّ 1907 و1908.
راذرفورد كان مهتمًا بدراسة أشعة ألفا وبيتا وغاما، وعلاقتهم باستكشاف الذرة.
تضمن فريق راذرفورد في مانشستر كلًا من جايجر و ويليام كاي الذان كانا يعملان مساعدين له في المختبر عام 1894.
في العام 1908، تسلم ويليام كاي منصب المسؤول المنظم في المختبر، وتولّى مهمة تنظيم المعدات، ومساعدة راذرفورد في أبحاثه.
عمل راذرفورد وجايجر معًا ما بين عاميّ 1907 و1908، في دراسة وقياس جسيمات ألفا.
وبعد محاولته الأولى التي باءت بالفشل في حساب جسيمات ألفا (في جامعة ماكجيل)، تمكن راذرفورد بعد سنة بالتعاون مع جايجر (في جامعة مانشستر)، وبالاعتماد على منهجَين من مراقبة جسيمات ألفا.
المنهج الأول، هو من خلال الومضات المنبعثة من جسيمات ألفا، على طبقة رقيقة من كبريتيد الزنك. تمكنوا من ملاحظة هذا من خلال المجهر. كما تمكنوا من حساب الومضات في زوايا مختلفة من التبعثر.
كما طوّروا إلكتروميتر لتوضيح مسار جُزَيئات ألفا.
كان لهذه الآلة أسطوانة معدنية مفرغة، مع سلك في أسفل وسطها. أضاف راذرفورد وجايجر جهدًا كهربائيًا (Voltage)، بين السلك والأسطوانة كافٍ لأن يصدر شرارات. بهذا، تتصادم جسيمات ألفا مع الغازات منتجةً بذلك أيونات الغاز. تتصادم هذه الأيونات مع جزيئات أخرى وتنتج أيونات إضافية، وهكذا.
كل جسيم من جسيمات ألفا ينتج شلالًا من الأيونات، يفرّغ الأسطوانة ويبيّن مسار جسيم الألفا.
نشر راذرفورد وجايجر مقالات عديدة لاحقًا ما بين عاميّ 1908 و1909، عن هذه الطرق في الدراسة وكيفية عملها.
رغم أن راذرفورد شكك بدايةً عام 1906 أن جزيئات ألفا هي ذرات هليوم متجردة من إلكتروناتها، لكنه سعى خلف الدليل. فاختبار واحد لم يكن كافيًا. لذلك، رأى راذرفورد أن الحل يكمن في جهد كهربائي أعلى، ومغناطسيات كهربائية كبيرة، لتحويل جزيئات ألفا. ولكن هذه الطريقة لم يكن مقتدرًا عليها بعد.
يُذكر أن راذرفورد أصر في العام 1908 أن هناك حاجة للحقول المغناطيسية والكهربائية القوية، من أجل قياس شحنتا وكتلتا جسيمات ألفا وبيتا.
بالتعاون مع توماس رويدز، جمع راثرفورد جزيئات ألفا في أنبوب زجاجي محكم الإغلاق، ضغطهم، ثم مرّر شرارة كهربائية فيهم. بهذا درسا الضوء المنبعث من المطياف ووجدوه مطابقًا لِطَيف الهيليوم. وبعد هذا بشهور، نال راذرفورد جائزة نوبل في الكيمياء، عن دراسته لتفكك العناصر وكيمياء المواد المشعة.
نعود إلى خريف 1908، حيث كانت بداية سلسلة الأبحاث.
مرّر جايجر إشعاعات ألفا في الذهب والرقائق المعدنية الأخرى، من أجل قياس تبعثر هذه الإشعاعات بالذرات في الرقائق المعدنية.
بدأ جايجر بالتعاون مع إرنست مارسدن (طالب الفيزياء البالغ من العمر 19 عامًا وقتها) أبحاثًا من أجل إيجاد العلاقات الرياضية بين ما يُعرف بالتبعثر (تغير في اتجاه حركة الجسيم بسبب تصادمه مع جسيم آخر) وسماكة الرقائق المعدنية، أو عدد الذرات الممرّرة.
يتذكر راذرفورد كيف جاءه جايجر سعيدًا بما توصل إليه بحثه، فقد ارتدّت جسيمات ألفا إلى الوراء واعتبر جايجر هذه النتائج من أروع ما توصّل إليه في حياته.
في خريف عام 1910، أعاد راذرفورد مارسدن إلى مانشستر من أجل استكمال الأبحاث.
أعاد الباحثان تحديد معادلات الانبعاث، ومجالات جسيمات ألفا بواسطة المصادر المشعة، كما أعادا النظر في تحليلاتهما الإحصائية.
استقر راذرفورد في أيار/مايو من عام 1911، إلى أنه يوجد في الذرة ًا ذو كثافة عالية تتمركز فيه كتلة الذرة، وهو الجزء الذي انحرف عن مساره.
نموذج راذرفورد:
الذرة هي مساحة فارغة تقريبًا، مع إلكترونات تدور حول نواة موجبة ثابتة.
في العام 1909، في الاختبار الشهير (Gold Foil Experiment) أو (تجربة رقاقة الذهب) الذي قام به جايجر ومارسيديان، تحت إشراف راذرفورد:
1: تم وضع صفيحة رقيقة من الذهب بين مصدر ألفا والشاشة (اللوحة المعدنية)
2: إطلاق جزيئات ألفا من مصدر ألفا إلى الشاشة
أطلق راذرفورد جسيمات موجبة ظانًا منه أنها ستنفذ، لكن على عكس ما توقع (أن تسلك الجزيئات مسارًأ مستقيمًا في ذرات الصفيحة)، معظم الجزيئات عبرت الصفيحة، ولكن البعض منها ارتد، مما يشير إلى شيء موجب يتصادم مع هذه الجزيئات. فإذا كانت الذرات جسيمًا صلبًا واحدًا، عندئذ ستمر جزيئات ألفا من خلال الذرات، وتخرج من الناحية الأخرى. بينما إن كان هناك شيء في مركز الذرة، فإن جسيمات ألفا سترتد إلى الوراء. وهذا ما حدث بالفعل، لأن جسيمات ألفا اصطدمت بالنواة، وهذا ما يثبت أن الذرة تتكون من أجزاء مختلفة.
سمّى راذرفورد وزميله جايجر هذا الشيء الموجب في مركز الذرة بالنواة.
ومن المعروف أن النواة تتألف من البروتونات والنيوترونات، وحولها حلقات الإلكترونات التي تتغير مواقعها حول النواة بحسب تغير طاقتها. ومجموع كتل البروتونات والنيوترونات في النواة هو كتلة الذرة، أو ما يُعرف بالكتلة الذرية.
كمثال، الهيليوم له بروتونَين ونيوترونَين، بالتالي كتلة الهيليوم الذرية تساوي 4.
في العام 1911 خرج راذرفورد باستنتاج أن للذرة نواة.
في عملية حسابية بسيطة، يتبين لنا أن على الذرة أن تكون مقرًا لحقل كهربائي كثيف لكي ينتج عنها هذا الانحراف الكبير في تصادم واحد.
ولكي يتم تأكيد نظرية راذرفورد، كان لا بد لثلاث علاقات كمية من أن تكون صحيحة:
أولًا، عدد جسيمات ألفا المبعثرة في زاوية محددة يجب أن يكون متناسبًا مع سماكة الرقائق المعدنية.
ثانيًا، يجب أن يكون هذا العدد متناسبًا مع تربيع الشحنة النووية.
ثالثًا، يجب أن يكون متناسبًا عكسيًا مع القوة المربعة لسرعة جسيم ألفا.
كان راذرفورد مهتمًا باحتمالية أن تكون شحنة المركز سالبة، رغم أن هذه الاحتمالية تبدو غريبة اليوم!
فلماذا مال إليها راذرفورد؟
أولًا، لم تكن مختلفة كثيرًا عما يُعرف بنموذج طومسون.
ثانيًا، بعد أن علم راذرفورد أن لجسيمات ألفا شحنات إيجابية مضاعفة، ظن أن هذا يمكن أن يكون مطابقًا لما تفعله الشمس بالمذنب الذي يمر بقربها.
ما استقر إليه راذرفورد هو أن الذرة سواء كانت كروية أو على شكل أسطوانة، وسواء كانت شحنة الذرة المركزية سلبية أو إيجابية، فإن ذلك لن يؤثر على العمليات الحسابية.
رأى راذرفورد أن امتصاص جسيمات بيتا يكون مختلفًا ما بين المركز الإيجابي والسلبي. لأن المركز الإيجابي يزيد من سرعة جسيمات ألفا خلال انبعاث العناصر المشعة.
في العام 1917، بدأ راذرفورد وويليام كاي في استكشاف مسار جسيمات ألفا، في الهيدروجين والنيتروجين وغازات أخرى. تَبيّن أن جسيمات ألفا تدفع نواة الهيدروجين الأخف إلى الأمام بسرعة كبيرة.
عندما مرّر راذرفورد جسيمات ألفا في النيتروجين، ومع أن ذرات النيتروجين أثقل من جسيمات ألفا، لاحظ راذرفورد أن الجسيمات طويلة المدى تتطايرت بالاصطدام.
بتطبيق المجال المغناطيسي، لاحظ راثرفورد أن سلوك الجسيمات مشابه لسلوك نوى الهيدروجين، رغم عدم وجود الهيدروجين. استنتج راذرفورد أن ذرات النيتروجين تتفكك عند الاصطدام منتجة بذلك ذرات الهيدروجين.
بحث راذرفورد النهائي في مانشستر عام 1919 سلط الضوء على التفكك الصناعي لنواة النيتروجين.

إعداد: تيما طعان
تدقيق: عمار ياسر

المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع
المصدر الخامس