قبل قرون، نظر البشر إلى السماء ليلًا وتخيلوا أن كوكبًا أسود قد غلف الأرض. اعتقدوا أن النجوم ببساطة هي نقاط مضيئة، والشمس والقمر والكواكب الأخرى تدور حول الأرض وفق نمط منتظم ومثالي. تصوروا أن الكون صغير، وتمثل الأرض مركزه في دائرة مثالية.
اكتشف علماء مثل كوبرنيكوس وغاليليو خطأ هذه الفلسفة. ولم يتقبل العالم فكرة أن الأرض في الواقع ليست مركز الكون إلا بعد قرن من اكتشافات غاليليو. بمرور الوقت، تعلمنا المزيد عن الكون وأصبحنا ندرسه اليوم بالتلسكوبات المتقدمة والأقمار الصناعية والمسابير.
نمتلك الآن صورًا لمجرات تبعد ملايين السنين الضوئية عن الأرض، ويدرس العلماء النجوم البعيدة بانتظام، واكتشفوا كواكب في أنظمة نجمية خارجية.
لكن عمومًا، ماذا نعرف عن الكون إجمالًا؟ هل يتوسع؟ هل هو لا نهائي؟ إذا كان له نهاية، فماذا يوجد وراء حدود الفضاء؟ وما هو شكل الفضاء بالضبط؟
هذه الأسئلة من اختصاص علم الكونيات، أو علم دراسة الكون. سلك الناس عدة سبل مختلفة لدراسة الكون. فركز البعض على الرياضيات، وفضل آخرون استخدام الفيزياء، وقليل منهم اعتمد مقاربات فلسفية.
لا يوجد إجماع بين العلماء على شكل الفضاء، لكن توجد عدة نظريات. يكمن جزء من تحدي وصف الفضاء في صعوبة تصوره. نحن معتادون على التفكير في المواقع ضمن بُعدين. مثلًا، يمكنك تحديد موقعك على خريطة باستخدام خطوط الطول والعرض. لكن للفضاء أربعة أبعاد. فإضافةً إلى الطول والعرض، ليس عليك أخذ العمق فقط في الحسبان، بل الزمن أيضًا. في الواقع، يشير العلماء إلى الأبعاد الأربعة معًا بمصطلح «الزمكان».
الانفجار الكبير والجاذبية والنسبية العامة
لفهم شكل الكون توجد ثلاث نظريات رئيسية: الانفجار العظيم ونظرية الجاذبية ونظرية النسبية العامة لأينشتاين. يأخذ العلماء النظريات الثلاث في الحسبان عند صياغة فرضيات حول شكل الفضاء. لكن ما الذي تحاول هذه النظريات تفسيره بالضبط؟
تصف نظرية الانفجار الكبير بداية الكون. بواسطة الرصد والتحليل، استنتج العلماء أن الكون يتمدد. وقد رصدوا الضوء الذي نشأ قبل مليارات السنين، عندما كان الكون يافعًا جدًّا. وافترضوا أنه في وقت ما، كانت كل المادة والطاقة في الكون متضمَّنةً في نقطة صغيرة للغاية، ثم توسع الكون فجأة، وتوسعت المادة والطاقة لتمتد ملايين السنين الضوئية، وتنشأ اللبنات الأساسية للكون كما نعرفه.
تنص نظرية الجاذبية على أن كل جسيم من المادة ينجذب إلى كل جسيم آخر. تحديدًا، تتجاذب الجسيمات بقوة تتناسب طرديًا مع كتلها، وعكسيًا مع مربع المسافة بينها، حسب المعادلة:
F = GMm/r2
إذ تمثل F قوة الجاذبية. ويعبر m و M عن كتلة الجسمين المعنيين، ويشير R2 إلى مربع المسافة بينهما. أما G فهو ثابت الجاذبية، وقيمته:
(6.672x 10-11 N m2 kg-2)
هذه القيمة صغيرة جدًا، مايفسر انفصال الجسيمات عن بعضها؛ إذ يتطلب وجود تأثير ملحوظ للجاذبية أجسامًا هائلة الكتلة.
بافتراض صحة نظرية الانفجار الكبير، فإنه في بداية الكون، لا بد أن انفجارًا هائلًا من الطاقة قد حدث، أدى إلى اندفاع المادة بسرعة هائلة، هذا الاندفاع ما زال مستمرًا حتى الآن. بلغ الانفجار من القوة حد التغلب على الجاذبية بين كل المادة في الكون.
ما يحاول علماء الكون تحديده الآن هو كمية المادة في الكون. مع ما يكفي من المادة، ستتباطأ الجاذبية تدريجيًا، من ثم تنعكس حركة تمدد الكون، ثم في النهاية يتقلص إلى مُفردة، ما يُسمى الانسحاق العظيم. لكن إذا لم توجد مادة كافية، فإن الجاذبية لن تكون قوية كفاية لوقف التمدد، فيستمر إلى ما لا نهاية.
إضافةً إلى شرح العلاقة بين الطاقة والمادة، تؤدي نظرية النسبية إلى استنتاج أن الفضاء منحنٍ. تتحرك الأجسام الموجودة في الفضاء في مدارات بيضاوية، ليس بسبب الجاذبية، بل لأن الفضاء ذاته منحنٍ، من ثم لا وجود لخطوط مستقيمة. في الهندسة، يُسمى الخط المستقيم على سطح منحنٍ: الخط المتقاصر أو الجيوديسي.
تكوّن النظريات الثلاث معًا الأساس النظري لوصف شكل الفضاء، مع ذلك لا يوجد إجماع على صحة تصور محدد لشكل الكون فعليًا.
أشكال الفضاء
تعتمد النماذج الثلاثة الرئيسية لشكل الفضاء على الانحناء: الانحناء الصفري، والانحناء الإيجابي، والانحناء السلبي.
يعني الانحناء الصفري أن الكون مسطح أو إقليدي. تخيل الفضاء هيكلًا ثنائي الأبعاد، سيبدو الكون الإقليدي مسطحًا، إذ إن الخطوط المتوازية ممكنة فقط على مساحة مسطحة. في الكون المسطح، هناك فقط ما يكفي من المادة ليتمكن الكون من التمدد إلى ما لا نهاية دون أن ينعكس ذلك إلى انهيار، وإن كان معدل التمدد يتناقص بمرور الوقت.
إذا كان للكون انحناء إيجابي، فهو كون مغلق. سيبدو النموذج الثنائي الأبعاد لهذا الكون مثل الكرة. من ثم من المستحيل أن توجد جيوديسيات متوازية (خطوط مستقيمة على سطح منحن)، فالخطان سيتقاطعان في مرحلة ما. في الكون المغلق، هناك ما يكفي من المادة لعكس التمدد. في نهاية المطاف، سينهار هذا الكون. يُعد الكون المغلق محدودًا، إذ سيتمدد فقط إلى حجم معين قبل أن ينهار.
الانحناء السلبي أصعب التصور قليلًا. الوصف الأكثر شيوعًا لهذا الكون هو السرج. في نموذج الانحناء السلبي، كل خطين يتوازيان على مساحة مسطحة يمتدان متباعدين. يسمي علماء الكون نماذج الانحناء السلبي للكون: الأكوان المفتوحة. في هذه العوالم، لا توجد مادة كافية لعكس التمدد أو إبطائه، وهكذا يستمر تمدد الكون إلى ما لا نهاية.
إذن ما شكل الفضاء ؟ هل هو مسطح أم كروي أم على شكل سرج؟ ليس بالضرورة أن يكون أي من هذه التصورات صحيحًا. تذكر أن الزمكان يتضمن أربعة أبعاد، ما يعني عدم دقة النماذج ثنائية الأبعاد. في الواقع، توجد العديد من النظريات المتنافسة حول الشكل النهائي للكون.
من النماذج المفترضة لتفسير شكل الفضاء: «الطارة الثلاثية». للوهلة الأولى، تبدو الطارة الثلاثية مكعبًا عاديًّا. لكن كل وجه من المكعب ملاصق للوجه المقابل. تخيل أنك تحلق في سفينة فضائية داخل مكعب كبير. تتجه نحو قمة المكعب، لكنك لن تصطدم بها، بل ستظهر مجددًا عند قاعدة المكعب. بعبارة أخرى، لقد صعدت عبر القمة وعدت عبر القاع. إذا سافرت بعيًدا كفاية في أي اتجاه، فستعود مجددًا إلى نقطة البداية. هذه ليست فكرةً غريبة، لأنك إذا سافرت على الأرض ضمن خط مستقيم، ستعود إلى نقطة البداية.
تصور آخر لشكل الفضاء هو «بوانكاريه دوديكاهيدرال» أو «بوانكاريه الاثني عشري الكروي». (الدوديكاهيدرون هو جسم ذو 12 جانبًا). يمتلك البوانكاريه أسطحًا منحنيةً إلى الخارج قليلًا. الأمر المحير أن الحجم المتوقع لهذا الكون أصغر من المساحة التي يمكننا ملاحظتها في الواقع. بعبارة أخرى، إنّ رؤيتنا تتجاوز حدود الكون. يفترض العلماء أن ذلك لا يمثل مشكلة، إذ إنك عندما تنظر إلى مجرة بعيدة تبدو كأنها تقع خارج حدود الفضاء، فأنت في الواقع تحت تأثير بوانكاريه الاثني عشري. تكون المجرة في الواقع خلفك، وأنت تنظر عبر أحد أوجه الشكل الاثني عشري مثل نافذة. إذا كان بإمكانك أن ترى بعيدًا كفاية، فسترى مؤخرة رأسك!
كيف نقيس الفضاء؟
تسمح لنا التلسكوبات بفحص الأجسام ضمن طيف الضوء المرئي، لكنها أدوات محدودة نسبيًا. إذ إن الضوء القادم من المجرات البعيدة قد تعترضه سحب الجسيمات والأجسام الأخرى قبل الوصول إلى الأرض. يمكن لأجهزة أخرى قياس الأطوال الموجية خارج الطيف المرئي. تركز العديد من الدراسات الحديثة على الخلفية الميكروية الكونية، وهو الإشعاع الذي خلّفه الكون عندما كان عمره 380,000 سنة فقط. بدراسة هذا الإشعاع، يمكن علماء الكون استخلاص استنتاجات حول شكل الكون في عمره المبكر.
باستخدام مسبار ويلكنسون للموجات الدقيقة، توصل العلماء إلى اكتشاف مثير للاهتمام فيما يتعلق بشكل الفضاء. إذ وجدوا أن اختلاف الأطوال الموجية لإشعاع الخلفية الميكروية الكونية يتوقف عند نقطة معينة. في عالم لا محدود، من المفترض ألا يوجد حد للأطوال الموجية، ويمكن توقع رؤية التباين والترددات في جميع الأحجام. فقط في كون محدود يُتوقع وجود حد للأطوال الموجية.
فيما يتعلق بالتوسع، يطلق العلماء مصطلح «معامل الكثافة» على نسبة كمية المادة في الكون إلى الكمية اللازمة لوقف التوسع. إذا كانت قيمة معامل الكثافة تتجاوز 1 فإن الكون مغلق. إذ إننا لعكس التمدد، سنحتاج بالضرورة إلى المزيد من الكتلة في الكون. إذا كان معامل الكثافة = 1، فإن الكون مسطح، إذ يتباطأ التمدد، لكنه لا يتوقف. أما إن كان معيار الكثافة يتراوح بين 0 و 1 فإن الكون مفتوح؛ يستمر في التوسع إلى الأبد.
لكننا لا نعرف كمية المادة الموجودة بالفعل في الكون. فالمادة التي نستطيع رصدها حتى الآن لا تتجاوز 5% من المادة اللازمة لعكس التوسع. لكن ما زال هناك مادة لا يمكننا رصدها. لاحظ العلماء أن حركة النجوم تعني وجود مادة غير مرصودة، إذ تفوق الجاذبية المؤثرة في النجوم الجاذبية المتوقعة وفقًا لكمية المادة المرئية، ما يعني وجود مادة لا يمكننا رصدها، أطلق عليها العلماء اسم المادة المظلمة.
هل يوجد ما يكفي من المادة المظلمة لحدوث انسحاق عظيم؟ هل يوجد ما يكفي من المادة في الكون لرفع قيمة معدل الكثافة إلى أكثر من 1؟ يعتقد علماء الكون أن المادة المظلمة في الكون تتجاوز بكثير المادة التي يمكن رصدها، ويتوقع بعضهم أن المادة المرئية والمظلمة معًا في كل الكون لا تتجاوز 30٪ من الكمية اللازمة لعكس التوسع.
ما زلنا لا نعرف شكل الفضاء معرفةً قطعية، لا تزال الأبحاث تجلب لنا معلومات جديدة كل يوم. إذا كان للفضاء حدود، فماذا يكمن وراءها؟ لا نعلم حتى الآن، وقد لا نعرف أبدًا.
اقرأ أيضًا:
كيف تؤخذ الإحداثيات في الفضاء؟
اكتشاف جزيئات لم تحدد في الفضاء من قبل
ترجمة: فاطمة البجاوي
تدقيق: أكرم محيي الدين