إحدى أقوى الظواهر التي نراها ونختبرها هي الجاذبية، فلا عجب أنه حتى أقدم العلماء حاولوا فهم سبب سقوط الأشياء على الأرض. كان الفيلسوف اليوناني أرسطو من أوائل الذين حاولوا إعطاء تفسير علمي مفصّل للجاذبية باقتراحه فكرة انجذاب الأشياء إلى «مكانها الطبيعي»؛ وبالنسبة إلى عنصر الأرض، فكان مكانه الطبيعي هو مركز الأرض (وهو مركز الكون أيضًا حسب نموذج أرسطو لمركزية الأرض والكون المتمحور حولها).
ظن أرسطو أن ما يحيط الأرض كرة مائية أحادية المركز تحيط بها كرة هوائية وتحيط بالأخيرة كرة نارية؛ فالأولى هي مملكة الماء الطبيعية، والثانية مملكة الهواء الطبيعية، والأخيرة هي المملكة الطبيعية للنار، ولذلك تغرق الأرض في الماء، ويغرق الماء في الهواء وترتفع النار فوق الهواء، فكل شيء -في نموذج أرسطو- ينجذب نحو مكانه الطبيعي، ويتناسب هذا الفهم مع حدسنا وملاحظاتنا الأولية عن كيفية عمل العالم.
رأى أرسطو أيضًا أن الأشياء تسقط بسرعة تتناسب مع وزنها؛ أي أن الجسم المعدني الأثقل وزنًا سيسقط أسرع من جسم خشبي له الحجم نفسه.
غاليليو والحركة
سيطرت فلسفة أرسطو عن حركة المواد باتجاه مكانها الطبيعي على طريقة تفكير الناس نحو2000 سنة، حتى أتى غاليليو غاليلي.
جرب غاليليو دحرجة أجسام مختلفة الوزن على سطوح مائلة (على عكس القصص الشعبية الخيالية عن رميه الأجسام من برج بيزا المائل) فوجد أنها تسقط بالتسارع نفسه؛ أي أن تغير سرعتها ثابت بصرف النظر عن وزنها. إضافةً إلى الدليل التجريبي، أجرى غاليليو تجربة فكرية (نظرية)، فدعم بها ما وصل إليه. ويتحدث الفيلسوف المعاصر دانيال دينيت في كتابه المنشور عام 2013 بعنوان «مضخات الحدس وأدوات تفكير أخرى» عن مقاربة غاليليو قائلًا:
«يمكن تحليل بعض التجارب الفكرية باعتبارها مناقشات صارمة تتخذ غالبًا شكل برهان الخلف (إثبات المطلوب بوساطة إبطال نقيضه)، وفيه يشتق المرء من مقدمات خصمه ما يُظهر به التناقض؛ فيثبت استحالة كون الأمر كله صحيحًا، وأحد البراهين المفضلة عندي هو ما يُنسب إلى غاليليو حول عدم سقوط الأجسام الأثقل بسرعة أكبر من سرعة سقوط الأجسام الأخف (بإهمال الاحتكاك)، فلو سقط الأثقل أسرع -جادل غاليليو- كسقوط الحجر الثقيل «أ» بسرعة أكبر من الحجر الخفيف «ب»، ثم ربطنا الحجرين ببعضهما لأبطأ «ب» من سرعة «أ»، لكن الحجرين معًا لهما وزن أكبر من وزن أيهما منفردًا، ولذلك يجب عليهما -مربوطين- السقوط بسرعة أكبر من سرعة «أ» لوحده، وهكذا نستنتج أن ربط الحجرين ببعضهما سيجعلها يسقطان -قياسًا بالحجر «أ» لوحده- أسرع وأبطأ في الوقت نفسه، وفي هذا تناقض».
نيوتن والجاذبية
لعل أهم مساهمة قدمها السير إسحاق نيوتن للعلم هي ملاحظته أن حركة سقوط الأجسام على الأرض هي نفس الحركة التي يختبرها القمر وباقي الأجسام في الفضاء، ما يحفظ أماكنهم بالنسبة لبعضهم (بُنيت هذه الملاحظة على عمل غاليليو وبفضل تبني نموذج مركزية الشمس ومبدأ كوبرنيكوس في عدم مركزية الأرض أيضًا، وقد طور نيكولاس كوبرنيكوس هذا المفهوم قبل غاليليو).
وضع نيوتن قانون الجذب العام، أو «قانون الجاذبية» كما اشتُهر بين الناس، الذي جمع بين هذين المبدئين في صيغة رياضية واحدة (معادلة رياضياتية) إذا استُعملت حددنا عبرها قوة الجذب بين أي جسمين لهما كتلة، وبربطها بقوانين نيوتن للحركة خلقت نظامًا رياضيًا للحركة والجاذبية سيمثل الفهم العلمي بلا منازع لأكثر من قرنين عبر الزمن.
آينشتاين يعيد تعريف الجاذبية
كان ألبرت آينشتاين صاحب الخطوة التالية في طريق فهمنا للجاذبية، حين قدم نظرية النسبية العامة التي تصف العلاقة بين المادة والحركة عبر الشرح الأساسي الذي مفاده تسبب الأجسام ذات الكتلة بانحناء نسيج الزمكان، ما يغير مسار الأجسام بطريقة تتناسب مع فهمنا للجاذبية.
وهكذا ليست الجاذبية -وفق فهمنا الحالي- إلا اتّباع الأجسام للمسار الأقصر في حركتها عبر نسيج الزمكان الذي تشوهه الأجسام المجاورة ذات الكتلة الضخمة. يتوافق هذا الفهم في معظم الحالات التي تواجهنا مع قانون الجاذبية الكلاسيكي الذي قدمه نيوتن توافقًا تامًا، لكن بعض الحالات الأخرى تتطلب فهمًا مصقولًا بنظرية النسبية العامة؛ لكي تتوافق البيانات مع الواقع إذا توخينا درجة عالية من الدقة.
البحث عن الجاذبية الكمية
لعلنا نُصدم إن علمنا بوجود حالات أخرى تعجز فيها حتى النسبية العامة عن منحنا نتائج معقولة، فهنالك -تحديدًا- حالات لا تتوافق فيها النسبية العامة مع فهمنا للفيزياء الكمية، وأحد أشهر الأمثلة عليها هي ما يجري عند حدود الثقب الأسود، إذ لا يتسق نسيج الزمكان الناعم مع حالة الطاقة المُفصّلة (الحُبيبية، المقسمة إلى درجات متباينة) التي تتطلبها الفيزياء الكمية. يُذكر أن الفيزيائي ستيفن هوكينغ توصل إلى حل نظري للمشكلة آنفة الذكر، يتنبأ بإشعاع الثقوب السوداء للطاقة على هيئة ما سُمّي باسم «إشعاع هوكينغ».
ما نحتاجه -على أي حال- هو نظرية مفصّلة حول الجاذبية، تستطيع استيعاب الفيزياء الكمية تمامًا. والوصول إلى نظرية «الجاذبية الكمية» ضروري لإجابة مثل هذه الأسئلة حول التعارض بين النسبية والكم، وقد يكون لدى الفيزيائيين بعض النظريات المرشحة حاليًا؛ أشهرها «نظرية الأوتار»، لكن لم تعطنا بعد أي من هذه النظريات المرشحة نتائج تجريبية توفر أدلة كافية (أو حتى تنبؤات تجريبية كافية) لتُقبل بصورة واسعة باعتبارها وصفًا صحيحًا للحقيقة الفيزيائية.
ألغاز ترتبط بالجاذبية
إضافةً إلى حاجتنا لنظرية جاذبية كمية، هناك لغزان نتجا عن تجارب مرتبطة بالجاذبية يحتاجان إلى حل. فقد وجد العلماء أن فهمنا الحالي للجاذبية لن ينطبق على الكون بأسره إلا في حال وُجدت قوة جاذبة غير مرئية (تُسمى المادة المظلمة) تساعد في حفظ تماسك المجرات، وقوة تنافرية طاردة غير مرئية أيضًا (تُسمى الطاقة المظلمة) تدفع المجرات البعيدة عن بعضها بمعدلات متسارعة.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: الحسين الطاهر
تدقيق: إيناس خير الدين
مراجعة: نغم رابي