يغادرنا النجوم والمشاهير من شتى المجالات كل يوم، لكن دائمًا ما يكون رحيل عمالقة الوسط العلمي من أكبر الخسائر وأشدّها تأثيرًا في عالمنا. من بين هؤلاء العمالقة عالم الفيزياء الشهير ستيفن واينبرغ ، الذي رحل عنّا في الثالث والعشرون من يوليو عن عمر ناهز 88 عامًا.
كان واينبرغ أحد أهم المفكرين وفيزيائيي النصف الثاني من القرن العشرين، وظل صوتًا رائدًا ومساهمًا فعّالا ومدرسًا خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، وكان اسمه دائما ما يُذكر إلى جانب عظماء عصره أمثال ريتشارد فاينمان وموراي جيل-مان.
لمع واينبرغ بين أقرانه وكان من أكثر الشخصيات احترامًا في كل الفيزياء وربما في كل العلوم؛ ما زاد من حدة الصدمة التي تلقاها الوسط العلمي عقب انتشار خبر وفاته عبر تويتر.
إذ أعرب الكثير من علماء الفيزياء عن حزنهم لهذه الخسارة الجسيمة، وعلّق أحدهم: «يُعدّ واينبرغ أحد أكثر العلماء إسهامًا في عصرنا!»، وأضاف آخر: «طالما كان واينبرغ متحدثًا بليغًا بنحو خاص عن النظرة العلمية للعالم».
حصل واينبرغ على جائزة نوبل عام 1979 لدوره المتميز في تطوير نظرية تُوحد الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، وتعد مساهمته أساسية في تطوير ما أصبح يُعرف بـ «النموذج العياري لفيزياء الجسيمات»: يُعدّ هذا النموذج تحفة فنية لتفسير الظواهر المتجذرة في الرياضيات التي تصف سلوك الجسيمات والقوى دون الذرية، وقد أثبت نجاحه البالغ في شرح نتائج التجارب العلمية بدقة أعجزت الفيزيائيين منذ فترة طويلة على إيجاد أدنى خلل فيه، وذلك على أمل وضع فيزياء “جديدة” من شأنها أن تعمق أكثر فهم الإنسان للطبيعة.
لدى واينبرغ إنجازات تقنية مهمة في مجالات أخرى من الفيزياء، وألّف العديد من الكتب المدرسية الموثوقة حول موضوعات مثل النسبية العامة وعلم الكونيات ونظرية المجال الكمومي.
وبرز من بين أوائل المدافعين عن نظرية الأوتار الفائقة بوصفها نظرية واعدة من شأنها -إذا وُحّدت مع النسبية العامة لآينشتاين- أن تُكّمل النموذج القياسي.
في وقت مبكّر من مساره العلمي، أدرك واينبرغ الحاجة إلى نشر الرسالة العلمية على نطاق أوسع؛ لذا أصدر كتابه الشهير «الدقائق الثلاث الأولى»، الذي نُشر في عام 1977، يشرح فيه نظرية الانفجار العظيم وبداية الكون لعشاق الفيزياء.
وقد كتب مقالات مميّزة عن طبيعة العلم وعلاقته الوطيدة مع المجتمع، وساهم بكثرة في كتابة مقالات رائعة في عدة مجلات علمية مثل نيويورك ريفيو أوف بوكس.
أعرب واينبرغ في كتابه «أحلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية شاملة» عن ظنه بأن الفيزياء كانت على وشك إيجاد التفسير الحقيقي للواقع «النظرية النهائية» التي من شأنها أن توحد جميع الفيزياء. لكن تحقيق هذا الهدف كان يعوقه عدم التوافق الواضح بين النسبية العامة وميكانيكا الكم.
إذ أكد واينبرغ في مقابلة عام 1997، أن صعوبة الجمع بين النسبية والفيزياء الكمومية بطريقة متسقة رياضيًا هو في الحقيقة أمر لا يجب أن يستدعي القلق، قائلًا: «عندما نضع النظريتين معًا، نجد أن لا مجال للعشوائية في قوانين الطبيعة».
ظن واينبرغ أن محاولة سد الفجوة النسبية والكمية دفعتنا خطوة هائلة إلى الأمام ومكّنتنا من تطوير نظريات واقعية عن الطبيعة على أساس حسابات رياضية وفكر خالص.
لقد أدت التجربة دورًا مهمًا في التحقق من صحة النماذج الرياضية؛ إذ تخطى النموذج القياسي للفيزياء تلك التجارب بنجاح وكان يقدم نتائج متسقة جدًا لدرجة أن إيجاد أي اختلالات مبنية على الفيزياء الجديدة يتطلب تقنية تجريبية أقوى مما يمتلكها الفيزيائيون حاليًا.
قال واينبرغ: «علينا الوصول إلى مستوى جديد تمامًا من الكفاءة التجريبية قبل أن نتمكن من إجراء تجارب تكشف الحقيقة تحت النموذج القياسي، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً جدًا، أظن أن الفيزياء الحديثة ستصل في آخر المطاف إلى صياغة نظرية نهائية، ولكن ربما ليس في أثناء وجودي…».
لقد كان محقًا، لم ير واينبرغ النظرية النهائية، وربما، كما اعترف في بعض الأحيان، لا أحد سيفعل ذلك. ما ينقصنا ربما ليس القوة التجريبية، بل القوة الفكرية. قال في كتابه «تفسير العالم»: «قد لا يكون البشر أذكياء بما يكفي لفهم القوانين الأساسية للفيزياء».
درس واينبرغ تاريخ العلوم باهتمام بالغ، وألّف في ذلك كتبًا وقدّم دورات علمية. كان الهدف من كتابه «تفسير العالم» هو تقييم العلوم القديمة والوسطى في ضوء المعرفة الحديثة.
لذا، تعرض لانتقادات المؤرخين وغيرهم ممن ادعوا أنه لم يفهم الغرض من التاريخ، وهو فهم المساعي الإنسانية لعصر ما وفقًا لشروطه الخاصة، وليس بإدراك متأخر عفا عليه الزمن.
كان واينبرغ متفهمًا لوجهة نظر المؤرخين، إلا أنها لم تكن تحظ بإعجاب لديه، إذ يرى أن قصة العلم الهادفة والمثيرة لاهتمام البشر يجب أن تركز على الكيفية التي تطورت بها معرفتنا والعثرات المبكرة التي أعاقت طريقنا نحو فهم الطبيعة إلى أن تمكّنا من بناء نظام متكامل لإيجاد تفسيرات صحيحة.
ربما يقيّم مؤرخو العلوم في المستقبل عمل واينبرغ في إطار معايير عصره، لكن حتى لو نُظر إليها في ضوء المعرفة المستقبلية، فلا شك في أن إنجازات ستيفن واينبرغ ستبقى خالدة بين كبار العلماء.
اقرأ أيضًا:
أكثر العلماء الأحياء تأثيرًا في عالمنا
أربع طرق تتحدى بها فيزياء الكم الواقع
ترجمة: بوجريدة رضوان
تدقيق: تسبيح علي