لنتخيل وجود مجرة في صالة المرايا بأحد بيوت المرح، ما ستراه أن تلك المجرة ستنعكس مرةً بعد أخرى، ومع كل انعكاس تصبح صورتها مشوهة أكثر فأكثر. هذا ما يكون الكون عليه بالقرب من الثقوب السوداء ، أحد أكثر الأماكن تشوهًا في الكون.
توصل الفيزيائيون سابقًا إلى بعض الأفكار التي قد تشرح كيف تبدو مثل تلك المناطق في الحقيقة، وتوصلوا إلى حسابات تشرح بالتحديد ما يمكنك رؤيته حول الثقوب السوداء، ما أتاح طرقًا محتملة لاختبار نظرية النسبية العامة.
في الحقيقة تُعد المناطق بالقرب من الثقوب السوداء غريبة للغاية، إذا استطعت النظر مباشرة إلى جسم ثقيل يتجه إلى الثقب الأسود فلن تستطيع التركيز عليه، لأنك سترى أشعة الضوء تُبتلع عند حدود الثقب الأسود، حيث لا يمكن أي شيء الإفلات من جاذبيتها.
لكن إذا حاولت النظر إلى مجرة تقع خلف ثقب أسود، سترى صورًا مشوهة لتلك المجرة لأن بعضًا من ضوء المجرة يقترب من الثقب الأسود دون أن يقع فيه، إذ بالكاد يلمس حدود الثقب الأسود.
تسبب جاذبية الثقب العالية انحناء الضوء الصادر مباشرة من المجرة في اتجاهات أخرى، كما في التجربة الافتراضية المذكورة. أغرب من ذلك أن تجد بعض انعكاسات تلك المجرة أبعد من الثقب الأسود ذاته، لا خلفه مباشرة.
إن الجاذبية حول الثقوب السوداء قوية للغاية، الزمكان مشوه بطريقة لا تُصدق. ما يجعل الضوء الذي لم يسقط فيه وبقي عند نقطة معينة يدور حوله، حتى أن بعض الضوء الصادر من المجرات يدور حوله إلى الأبد.
يجب على الضوء بلوغ تلك النقطة المحددة التي لا يقع فيها داخل الثقب الأسود، كي يدور حوله للأبد، دون الإفلات أو الوقوع داخله. أيضًا قد يقترب الضوء من الثقب بزاوية تسمح له بعمل حلقة أو عدة حلقات حوله قبل أن يفر من الثقب في النهاية.
انظر إلى حافة الثقب الأسود ، سترى الصورة الأولى لمجرة واقعة بالخلفية عبر ضوئها المنحرف، ثم سترى الصورة الثانية متمثلة في أشعة الضوء التي تصنع مدارًا واحدًا قبل الإفلات بعيدًا عن الثقب، ثم سترى الصورة الثالثة لأشعة الضوء التي صنعت مدارين، ثم ثلاثة مدارات، وهكذا.
أدرك الفيزيائيون منذ عقود، بواسطة افتراضات بسيطة، أن كل صورة منعكسة أقرب من الصورة الأخيرة بمقدار e مرفوعة للأس 2Pi.
حيث e : اللوغاريتم الطبيعي ويساوي 2.7182.
Pi قيمة تساوي 3.14159 .
عند حساب تلك القيمة نجدها تساوي تقريبًا 500. هذا يعني أن كل صورة انعكاسية للجسم الواقع خلف الثقب الأسود، ستكون أقرب للحافة 500 ضعف مقارنةً بالانعكاس الأول.
توصل الفيزيائيون إلى تلك الحسابات نظريًا، لكنهم غير متيقنين تمامًا هل العامل 500 يحدث فعليًا إذا فحصنا التشوه الزمكاني الذي تسببه الثقوب السوداء بالقرب منها أم لا؟
وفقًا لنتائج دراسة جديدة نشرها ألبرت سنيبن، طالب الدراسات العليا في معهد نيلز بور بجامعة كوبنهانجن، فإنه باستخدام الطرق العددية لمحاكاة فيزياء مدارات أشعة الضوء المجاورة للثقوب السوداء، تحقق من كون العامل 500 يتحقق بالفعل. قال سنيبن: «أدركنا شيئًا رائعًا مذهلًا حقًّا، إذ عرفنا سبب تكرار الصورة ذاتها بتلك الطريقة الخلابة».
وجد سنيبن أن العامل 500 ينطبق فقط على الثقوب السوداء البسيطة غير المتحركة. إذ إن الثقوب السوداء في الكون الحقيقي تدور، ما يُغيِّر مدارات الضوء حولها، الذي بدوره يُغير المسافة الفاصلة بين الصور الظاهرة.
أوضح سيبين: «عندما تدور الثقوب السوداء بسرعاتها العالية لا يمكنك الاقتراب من الثقب الأسود بمعامل 500، بل سيطبق عامل أقل بكثير. في الحقيقة كل صورة قد تبتعد عن حافة الثقب الأسود بمقدار 50 أو 5 أو حتى مرتين فقط».
الصور المنعكسة للجسم الواقع خلف الثقب الأسود تظهر أوضح كلما ابتعدنا عن حافة الثقب مقارنةً بالصور الأقرب إلى الحافة، التي تتشوه إلى الحد الذي يجعلنا نعجز عن التعرف عليها، لأن دوران الثقوب السوداء يثني الزمكان حولها.
تقنيًا، يوجد عدد لا نهائي من الصور المنعكسة للأجسام الواقعة خلف الثقوب السوداء، كل واحدة منها أقرب إلى الثقب الأسود من سابقتها. قد لا يتمكن البشر من رصدها جميعًا حتى باستخدام أقوى التلسكوبات، لأن عددًا ضئيلًا منها فقط يمكن رصده. لكن مع قلة عددها، تقدم منظورًا قويًا يدعم النسبية العامة.
التقط تليسكوب أفق الحدث عام 2019، المكون من شبكة من التلسكوبات الأرضية الممتدة حول العالم، أول صورة للثقب الأسود، لكنها في الواقع صورة لظل ثقب أسود على الغبار والغاز المحيط به. لم يكن ذلك التليسكوب قويًا بما يكفي لالتقاط الصور المتعددة لانعكاسات الأجسام الواقعة خلف الثقب الأسود، لكن ربما تتمكن التليسكوبات المستقبلية من ذلك.
بمقارنة مدى اختلاف سلوكيات الأجسام في العالم الحقيقي بمثيلتها التي نتوقعها بواسطة حساباتنا النظرية مثل أعمال سيبن، سيوفر ذلك اختبارات غير مسبوقة للنسبية العامة. مثلًا إذا وجد انفجار مستعر أعظم- انفجار قوي يحدث عند نهاية تسلسل حياة النجم- خلف ثقب أسود، سنرى صورًا منعكسة لذلك المستعر الأعظم ينفجر عدة مرات، كل صورة تتأخر بقدر محدد، اعتمادًا على عدد المرات التي دارت فيها حول الثقب الأسود، ما يسمح للباحثين بمقارنة نظرياتهم بالواقع.
نحن فقط بحاجة إلى التأمل في الكون فترة كافية.
اقرأ أيضًا:
الجيل الجديد من تلسكوب أفق الحدث
مرصاد “أفق الحدث” يكشف عن حقول مغناطيسية في الثقب الأسود المركزي لمجرة درب التبانة!
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: روان أحمد أبوزيد