الرشقات الراديوية السريعة «FRBs»، إنفجارات موجزة لموجات راديوية كونية رائعة، جعلت عُلماء الفلك في حيرة مُنذ إلتقاطها لاول مرة قبل حوالي عقدٍ من الزمان. على الرغم من أنها تبدو وكأنها تأتي من الكون البعيد، لم تكشف أيٌّ من هذه الأحداث الغامضة عن أكثر من تفاصيل قليلة حول الكيفية التي تشكلت بها والمكان، حتى الآن.

بجمع أكثر من 650 ساعة من البيانات المؤرشفة من منظار جرين بانك «GBT» التابع لمؤسسة العلوم الوطنية «NSF»، قام فريق من علماء الفلك بالكشف عن أكثر التسجيلات تفصيلًا من أي وقت مضى لـ الرشقات الراديوية السريعة. تُشير أبحاثهم إلى أن الإنفجار نشأ داخل منطقة ممغنطة بشكلٍ كبير في الفضاء، ومن المحتمل ربطها بظاهرة سوبر نوفا حديثة أو الداخل من سديم تشكيل نجوم نشط.

قال كيوشي ماسوي «Kiyoshi Masui»، فلكي في جامعة كولومبيا البريطانية والمعهد الكندي للابحاث المُتقدمة، “نحن نعرف الآن أن الطاقة من هذه الرشقات الراديوية السريعة مرّت خلال منطقة كثيفة وممغنطة بعد فترةٍ وجيزةٍ من تشكيلها، وهذا يُضيق بشكلٍ كبير من بيئة المصدر ونوع الحدث الذي تسبب في الإنفجار.”

لم تستغرق سوى جزء من الثانية رغم ذلك إحتوت على مقدارٍ هائل من الطاقة، الرشقات الراديوية السريعة هي ومضات إذاعية قصيرة مجهولة المنشأ تبدو كأنها تأتي من إتجاهات عشوائية في السماء. وعلى الرغم من انه لم يتم توثيق سوى عددٍ قليل في السابق يعتقد علماء الفلك أن الكون المعروف يهتز بالآلاف من هذه الأحداث كل يوم.

 

بيانات التعدين للكشف عن الكتلة المراوغة

وجد علماء الفلك الرشقات الراديوية السريعة المُكتشفة حديثًا، و قد أُطلق عليها إسم «FRB 110523»، باستخدام برامج متخصصة للغاية طوّرت بواسطة ماسوي وزميله جوناثان سيفرز من جامعة كوازولو ناتال في ديربان، جنوب أفريقيا.

البيانات المُسجلة هي- ما مجموعه 40 تيرابايت، أنشأت تحديًا تحليليًا كبيرًا، وقد أصبحت أكثر صعوبة لأنه و بخلاف ذلك الإشارة الحادة القصيرة للرشقات الراديوية السريعة أصبحت غير واضحة (ملطخة) التردد بسبب رحلتها عبر الفضاء.

تلطيخ إشارات الراديو هذه، والمعروفة باسم تأخير التشتت، غالبًا ما تُستخدم لتقدير المسافة في علم الفلك الراديوي: كلما زاد التشتت، كُلما كان الجسم أبعد عن الأرض. في هذه الحالة، يشير مقياس التشتت إلى أن الرشقات الراديوية السريعة قد نشأت على بُعد 6 مليار سنة ضوئية.

رغم ذلك، يٌشخص التشتت وجود الرشقات الراديوية السريعة ضمن بيانات الراديو المؤرشفة.

قلّل البرنامج الجديد من الوقت اللازم لتحليل البيانات عن طريق التصدي لآثار التشتت، التي اعادت الرشقة لمظهرها الأصلي.

الفريق – وهم في المقام الأول باحثون مع خلفيات في علم الكون – إستخدموا هذا البرنامج لتوصيل تمريرة أولية لبيانات الـ «GBT» (منظار جرين بانك) للإشارة إلى أي إشارة مُرشحة. أسفر هذا الى أكثر من 6 آلاف رشقة راديوية سريعة مُحتملة، والتي تم فحصُها بشكلٍ فردي بواسطة عضو الفريق شيو شيان لين «Hsiu-Hsien Lin» من جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ. تحليله غربل المجال حتى بقي مرشح واحد فقط.

 

تفاصيل مُخبأة في الإستقطاب

مع ذلك، هذه الإشارة الوحيدة كانت استثنائية وأحتوت مزيدًا من التفاصيل حول إستقطابها عن أيٍّ من التي سبق تحديدها. قبل هذا الكشف، كان الاستقطاب الدائري مرتبطًا مع الرشقات الراديوية السريعة. وتشمل الدراسة الجديدة للـ «GBT» كشف كل من الاستقطاب الدائري والخطي.

يقول جيفري باترسون «Jeffrey Peterson»، عضو هيئة تدريس في مركز ماك ويليامز لعلم الكون في جامعة كارنيغي ميلون، “وجدنا إشارة غريبة جدًا مخبأة داخل مجموعة بيانات ضخمة جدًا،، تُطابق كل الخصائص المعروفة لـ الرشقات الراديوية السريعة، ولكن مع وجود عنصر إستقطاب اضافي مُحير ببساطة لم يسبق لنا أن رأينا مثله من قبل.”

الاستقطاب هو خاصية الإشعاع الكهرومغناطيسي، بما في ذلك الضوء وموجات الراديو، ويدل على إتجاه الموجة. تستعمل النظارات الشمسية المستقطبة هذه الخاصية لحجب جزء من أشعة الشمس وتستعملها الأفلام ثلاثية الأبعاد (3D) لتحقيق وهم من العمق.

إستخدم الباحثون هذه المعلومات الإضافية لتحديد إذا ما يتعرض ضوء الراديو الناتج من الرشقات الراديوية السريعة لدوران فاراداي،(موجات راديوية ملتوية مُشابهة لفتاحة العلب تكتسب عبر مرورها من خلال مجال مغناطيسي قوي).

يُفسر ماسوي “هذا يخبرنا شيئا عن المجال المغناطيسي الذي انتقلت خلاله الرشقة في طريقها إلينا، وإعطائنا لمحة عن بيئة الرشقة. كما انه يعطي واضعي النظريات المزيد من التفاصيل للتعامل معها عندما يجدون تفسيرات لهذه الرشقات.”

بالإضافة إلى ذلك، قياسات تأخير التشتت يمكن إستخدامها لوضع حدٍ أدنى لحجم منطقة المصدر. في هذه الحالة، القياسات التي تحكُم نماذج الرشقات الراديوية السريعة التي تنطوي على النجوم في مجرتنا وللمرة الأولى، تدل المعطيات على أن الرشقات الراديوية السريعة يجب أن تكون قد نشأت في مجرة ​​أخرى.

ويكشف المزيد من التحليل للإشارة إلى أنها مرّت أيضًا خلال إثنين من مناطق مُميزة من غاز مؤين، تُدعى الشاشات، في طريقها إلى الأرض. و من خلال استخدام الترابط بين الشاشتين، تمكن علماء الفلك من تحديد مواقعهم النسبية. تقع أقوى الشاشتين قريبًا جدًا من مصدر الرشقة أي- ضمن مائة ألف سنة ضوئية – واضعةً إياها داخل مجرة المصدر. شيئان فقط يُمكن أن يتركوا بصمةً على الإشارة، يشير الباحثون: سديم يُحيط بالمصدر أو البيئة بالقرب من مركز المجرة.

يستنتج ماسوي “بأخذهما معًا، تكشف هذه البيانات الإستثنائية أكثر حول الرشقات الراديوية السريعة عما رأينا مثلها من قبل، وتعطينا القيود الهامة على هذه الأحداث الغامضة. لدينا أيضًا أداة جديدة مثيرة للبحث بخلاف ذلك خلال بيانات أرشيفية ساحقة للكشف عن المزيد من الأمثلة والأقتراب من الفهم الصحيح لطبيعتها.”

نشرت نتائج البحث في مجلة نيتشر.

تلسكوب جرين بانك ذو المائة متر هو أكبر تلسكوب لاسلكي قابلة للتوجيه تمامًا في العالم. يقع في المنطقة الوطنية الإذاعية الهادئة ومنطقة علم الفلك الراديوي في غرب فرجينيا والتي تحمي تلسكوبًا حساسًا للغاية من التداخل الإذاعي غير المرغوب فيه، مما مكنهُ من إعطاء مُلاحظات فريدة من نوعها


 

المصدر