فاز عالم الرياضيات -الذي طور صيغًا لجعل العمليات العشوائية أكثر قابلية للتنبؤ، وساعد في حل نموذج أيقوني يصف الظواهر المعقدة- ميشيل تالاغراند بجائزة أبيل لعام 2024، وهي واحدة من أكثر الجوائز المرغوبة في هذا المجال.

حصل العالم تالاغراند على الجائزة لمساهماته في نظرية الاحتمالات والتحليل الوظيفي، مع تطبيقات متميزة في الفيزياء الرياضية والإحصاء، حسب الأكاديمية النرويجية للعلوم والآداب في أوسلو، في العشرين من مارس الماضي.

يقول عساف ناعور، عالم الرياضيات في جامعة برينستون في نيوجيرسي، إنه من الصعب المبالغة في تقدير تأثير عمل تالاغراند، ويقول إن هناك أوراق تُنشر يوميًا، معتمدةً على متباينات تالاغراند.

لم يصدق تالاغراند عند سماعه الأخبار، وعبّر قائلًا: «كان هناك فراغ تام في ذهني لمدة أربع ثوان على الأقل، ولو قيل لي أن سفينة فضائية هبطت أمام البيت الأبيض، لما شعرت بدهشة أكبر».

صُممت جائزة أبيل على غرار جوائز نوبل التي لا تشمل الرياضيات، ومنحت لأول مرة عام 2003، وينال الفائز مبلغًا ماليًا قدره 7.5 مليون كرونة نرويجية، أي ما يعادل 700 ألف دولار أمريكي.

قطعة فنية:

تالاغراند متخصص في نظرية الاحتمالية والعمليات العشوائية، وهي نماذج رياضية لظواهر تحكمها العشوائية، ومن الأمثلة النموذجية على ذلك مستوى مياه النهر، الذي يكون شديد التباين، ويتأثر بالعديد من العوامل المستقلة، مثل المطر والرياح ودرجة الحرارة.

كان إنجازه الأكثر فخرًا هو عدم المساواة، وهي مجموعة من الصيغ التي تضع حدودًا للتقلبات في العمليات العشوائية، وتعبر صيغها عن كيفية إلغاء مساهمات العديد من العوامل بعضها بعضًا في كثير من الأحيان، ما يجعل النتيجة الإجمالية أقل تغيرًا وليس أكثر.

يقول هيلج هولدن، رئيس لجنة أبيل، وعالم الرياضيات في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا في تروندهايم: «إنها مثل قطعة فنية. السحر هنا هو العثور على تقدير جيد، وليس مجرد تقدير تقريبي».

يقول ناعور، إنه وبفضل تقنيات تالاغراند، تبين أن العديد من الأشياء التي تبدو معقدة وعشوائية، ليست عشوائية للغاية، فتقديراته قوية جدًا. على سبيل المثال لدراسة مشكلات مثل تحسين مسار شاحنة توصيل، فإن العثور على حل مثالي يتطلب قدرًا هائلًا من العمليات الحسابية، لذا يمكن لعلماء الكمبيوتر بدلًا من ذلك حساب أطوال عدد محدود من المسارات العشوائية المرشحة، ثم أخذ المتوسط، وتضمن متباينات تالاغراند أن النتيجة قريبة من المسار الأفضل.

أكمل تالاغراند أيضًا حل المشكلة التي طرحها الفيزيائي النظري جورجيو باريزي، وهو العمل الذي ساعد باريسي في نهاية المطاف على نيل جائزة نوبل في الفيزياء عام 2021.

في عام 1979، اقترح باريزي، الذي يعمل الآن في جامعة روما، حلًا كاملًا لبنية الكون. زجاج مغزلي، نموذج مادي يتميز بتوجه ذراته المغناطيسية نحو الانقلاب إلى الأعلى أو الأسفل استنادًا إلى تأثير مغنطة الذرات المجاورة.

كانت نظرية باريزي نابعة عن حدسه القوي في الفيزياء، واتبعت خطوات قد يعدها علماء الرياضيات سحرًا، وفقًت لتالاغراند، على سبيل المثال أخذ n نسخة من نظام ما، إذ يكون n عددًا سالبًا.

شكك العديد من الباحثين في إمكانية جعل برهان باريزي دقيقًا من الناحية الرياضية، ولكن في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حُلّت المشكلة بالكامل في عملين منفصلين، أحدهما لتالاغراند والآخر لفرانشيسكو جويرا، وهو عالم فيزياء رياضي يعمل أيضًا في جامعة روما.

العثور على الدافع:

كانت رحلة تالاغراند ليصبح باحثًا بارزًا رحلة غير تقليدية.

ولد في بيزييه في فرنسا عام 1952، وفقد البصر في عينه اليمنى عندما كان في الخامسة من عمره بسبب الاستعداد الوراثي لانفصال الشبكية.

مع أنه كان قارئًا نهمًا للمجلات العلمية الشهيرة في أثناء نشأته في ليون، فإنه كان يعاني في المدرسة، خاصة مع القواعد المعقدة للتهجئة الفرنسية، وقال لأحد المحاورين في عام 2019: «لم أتصالح أبدًا مع قواعد الإملاء».

جاءت نقطة التحول لديه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، عندما تلقى علاجًا طارئًا لانفصال آخر في الشبكية في عينه اليسرى. كان عليه أن يغيب عن المدرسة لمدة عام كامل تقريبًا.

هذه التجربة المرعبة المتمثلة في فقدان بصره تقريبًا، إضافة إلى جهود والده لإبقاء عقله مشغولًا بينما كانت عيناه معصوبتين، أعطت تالاغراند تركيزًا متجددًا، فأصبح طالبًا متحمسًا للغاية بعد شفائه، وبدأ في التفوق في مسابقات الرياضيات الوطنية.

لم يتبع تالاغراند المسار النموذجي للطلاب الفرنسيين الموهوبين، الذي يتضمن عامين من المدرسة الإعدادية تليهما مسابقة قبول وطنية للمدارس الكبرى الانتقائية للغاية مثل مدرسة المعلمين العليا في باريس. وبدلًا من ذلك، درس في جامعة ليون في فرنسا، ثم ذهب للعمل باحثًا متفرغًا في وكالة الأبحاث الوطنية CNRS، أولاً في ليون ثم لاحقًا في باريس، إذ أمضى أكثر من عقد من الزمن في وظيفة برتبة متدرب.

بغض النظر عن الفترة القصيرة التي قضاها في كندا، وأعقبتها رحلة إلى الولايات المتحدة حيث التقى بزوجته، فقد عمل في المركز الوطني للبحوث العلمية حتى تقاعده.

يحب تالاغراند تحدي علماء الرياضيات الآخرين لحل المشكلات التي توصل إليها، إذ إنه يعرض الأموال على أولئك الذين يقومون بذلك، ويُبقي قائمةً بهذه المشكلات على موقعه على الإنترنت. وقد حُلَّ بعضها، ما أدى إلى نشرها في مجلات الرياضيات الكبرى.

اقرأ أيضًا:

توليد الأرقام العشوائية: ما وظائفها ومجالات استخدامها؟

مقولة أينشتاين الشهيرة “الله لا يلعب النرد” تستخدم لتوليد أرقام عشوائية حقيقية غير قابلة للاختراق

ترجمة: يوسف الشيخ

تدقيق: نور حمود

المصدر