اكتُشفت مجرة جديدة حطمت الرقم القياسي بوصفها أقدم مجرة رُصدت حتى الآن، ما يمثل تحديًا كبيرًا لنظرياتنا الحالية عن تشكل المجرات وتطورها عبر الزمن.
سُميت هذه المجرة (JADES-GS-z14-0)، وتتميز بتألقها ولمعانها الكبير في سماء كوننا الواسع، تظهر هذه المجرة كما كانت تبدو منذ أقل من 300 مليون سنة بعد الانفجار العظيم. تأكد اكتشاف مجرة أخرى حديثًا، سُميت (JADES-GS-z14-1)، وتبعد تقريبًا المسافة ذاتها مثل المجرة الأولى.
يشرح علماء الفلك أن رصد المجرات الحديثة واكتشافها أصبح واقعًا لا شك فيه، ما يمثل تحديًا فيما يتعلق بإعادة تفسير وشرح كل ما يتعلق بالحقائق التي توصلنا إليها عن بداية الكون أو ما نسميه حقبة الفجر الكوني، الحقبة التي تشكلت فيها المجرات والنجوم.
وفقًا لعلماء الفلك ستيفانو كارنياني من مدرسة نورمال سوبريور في إيطاليا وكيفين هاينلاين من جامعة أريزونا، رصدت أداة (NIRSpec)، في يناير 2024، مجرة (JADES-GS-z14-0) مدةً تقارب عشر ساعات، وبتحليل البيانات المستخرجة من المشاهدات السابقة، حصلنا على أدلة قاطعة، تبين أن لدى المجرة انزياحًا أحمر بمقدار 14.32، ما حطم الرقم القياسي لأبعد مجرة رُصدت سابقًا.
تبين من الصور والمشاهدات السابقة، أن امتداد المجرة يفوق 1600 سنة ضوئية، ما يشير إلى أن مصدر الضوء الذي نراه، منبعث من النجوم الشابة في هذه المجرة، لا انبعاثًا ناتجًا من ثقب أسود قريب من المجرة.
يشير هذا الكم الهائل من الضوء المنبعث من النجوم إلى أن المجرة تعادل مئات الملايين من كتلة الشمس، ما يثير التساؤلات حول قدرة الطبيعة على تكوين مجرة بهذا الحجم والضخامة واللمعان في أقل من 300 مليون سنة.
كُتبت ثلاث أوراق بحثية حول هذا الاكتشاف، نشرت إحداها مؤخرًا في مجلة (Nature). توصلت جميعها إلى النتيجة ذاتها: المجرة (JADES-GS-z14-0) موجودة بالفعل، وتمثل نقطة مهمة لتحسين إدراكنا وفهمنا حول كيفية تشكل الكون في بداياته.
حتى فترة قريبة، ظلت معرفتنا محدودةً جدًا عن الفترة المعروفة باسم الفجر الكوني «مليار سنة الأولى التي تلت الانفجار العظيم، منذ 13.8 مليار سنة»، والسبب أن الكون في بداية تشكله كان مليئًا بضباب من الهيدروجين المحايد، الذي كان بدوره يشتت الضوء ويمنع انتشاره، ما يجعل سفره إلينا صعبًا جدًا، فلا يمكننا رصد الضوء القادم من فترة بدايات الكون، ما يؤدي إلى قلة معرفتنا بما جرى في حقبة فجر الكون.
لكن لم يدم وجود هذا الضباب طويلًا، فقد تأين وأُزيل بواسطة الضوء فوق البنفسجي الصادر من الأجرام السماوية في بدايات الكون، ومع نهاية حقبة الفجر الكوني، أصبح الفضاء شفافًا بالكامل، ما سمح بسفر الضوء بحُرية.
مع نهاية فجر الكون واختفاء الضباب بالكامل، كانت العديد من المجرات والنجوم قد تشكلت بالفعل. إذا أردنا أن نفهم كيفية تشكل هذه الأجرام، لا بد من التغلب على المشكلات التي تعوق رؤيتنا تلك الحقبة، وهي ضباب الهيدروجين المحايد.
مع تطور التكنولوجيا الكبير في عصرنا الحالي، أصبح بإمكاننا مواجهة تلك المشكلات والتخلص منها، إذ صُمم تلسكوب جيمس ويب الفضائي لتلبية هدف اكتشاف الكون في بدايات تشكله، إذ زُوّد التلسكوب بمستشعرات للأشعة تحت الحمراء، يمكنها أن تعبر خلال الأجسام والأوساط الكثيفة، إذ تتميز الأشعة تحت الحمراء بأطوالها الموجية الطويلة، ومن ثم تستطيع اختراق الوسائط التي لا يستطيع الضوء العادي اختراقها، وبأقل تشتت ممكن لأشعتها.
أجرى تلسكوب جيمس ويب مسحًا دقيقًا للمجرات العميقة في كوننا، في أولى برامجه العلمية الاستكشافية لبدايات تشكل الكون، إذ كان من المقرر البحث عن الأجرام السماوية التي تشكلت خلال أول 650 مليون سنة بعد الانفجار العظيم، وكما هو متوقع، حصلنا على نتائج مثيرة للاهتمام.
ظهرت العديد من النتائج المفاجئة خلال استطلاع تلسكوب جيمس ويب، ومن النتائج المتكررة وجود أجسام كبيرة في حقب مبكرة جدًا من بداية تشكل الكون، مثلت هذه النتيجة اكتشافًا مدهشًا للعلماء، إذ كان يُعتقد سابقًا أن الأجسام الهائلة مثل الثقوب السوداء العملاقة والمجرات، تستغرق وقتًا أطول لتتشكل، فترة أطول بكثير من الحقبة الزمنية المرصودة.
كان اكتشاف المجرة (JADES-GS-z14-0)، هو الأهم والأكثر إثارة للدهشة، إذ ظهرت هذه المجرة بحجمها الهائل ولمعانها المذهل، وهو حدث غير متوقع في اكتشاف المجرات التي تشكلت في بداية الكون، إذ حطمت صفات هذه المجرة جميع توقعات العلماء ونظرياتهم حول كيفية ظهور المجرات الأولية.
مبدئيًا، يُظهِر حجم هذه المجرة أن معظم الضوء القادم منها منبعث من نجومها، وليس من وهج الضوء القادم من عمليات التراكم المحيطة بالثقوب السوداء الهائلة.
كشف تحليل الضوء القادم من هذه المجرة وجود الكثير من الغبار والأكسجين، وهو أمر غير متوقع الحدوث في المراحل المبكرة من تشكل الكون، لأن مثل هذه العناصر الثقيلة تحتاج إلى أن تتكون بدايةً داخل النجوم، التي يجب أن تنفجر في نهاية الأمر محررةً تلك العناصر خارجها. يشير وجود هذه العناصر إلى تشكل وموت عدة أجيال من النجوم خلال 300 مليون سنة بعد الانفجار الكبير.
مع أن النتائج الحالية تخالف ما توقعه علماء الفلك خلال السنوات الماضية، فإن تشكل عدة أجيال من النجوم ليس بالأمر المستحيل، نظرًا إلى أن أقدم النجوم التي نعرفها اليوم لا يتجاوز عمرها بضعة ملايين من السنين.
عمومًا، يشير اكتشاف هذه المجرة إلى ضرورة إعادة تفكيرنا ببدايات تشكل الكون، وهذا يتضمن عدم تفسير جميع مصادر الضوء المرصودة بوصفها قادمة من الثقوب السوداء النامية، فقد أظهرت هذه المجرة أنه يمكن للمجرات الكبيرة واللامعة، أن تتجمع في وقت مبكر جدًا من بداية حقبة الفجر الكوني.
أصبحت المجرة (JADES-GS-z14-0)، النموذج الأصلي والمثالي للتعبير عن هذه الظاهرة وإثباتها، يقول العالم كارنياني: «إنه لمن المذهل أن يتمكن الكون من تكوين مثل هذه المجرة العملاقة في غضون 300 مليون سنة فقط».
اقرأ أيضًا:
تخيل حدوث حريق على متن رحلة فضائية! ما مدى خطورة الأمر؟
مصور فلكي يلتقط صورًا للشمس وهي تطلق بلازما مذهلة نحو كوكب عطارد
ترجمة: آية شميس
تدقيق: أكرم محيي الدين