بعد مرور أكثر من 50 عامًا على عصر أبولو، ما زالت الحكومات الكبرى والشركات الخاصة ذات التمويل الجيد تعاني صعوبات كبيرة في مهام الهبوط على سطح القمر. فلماذا تصعب هذه المهمة في عام 2024؟
حققت مركبة فضائية بحجم يقارب كشك الهاتف تحت اسم «أوديسيوس» إنجازًا تاريخيًا يوم الخميس (22 فبراير)، إذ وصلت إلى القطب الجنوبي للقمر في تمام الساعة 6:23 مساءً بتوقيت شرق الولايات المتحدة. بناءً على ذلك، أصبحت «أوديسيوس» -التي صممتها شركة (Intuitive Machines)- أول مركبة فضائية أمريكية تهبط على سطح القمر منذ أكثر من 50 عامًا، وأول مركبة فضائية خاصة تصل إلى سطح القمر على الإطلاق.
جاء هذا النجاح بوصفه وقفة ترحيبية مفرحة بعد سلسلة من الفشل الذي عُرف في مجال الهبوط على القمر، إذ انتهت خمسة من تسعة محاولات هبوط سابقة على نحو سيئ لمختلف الدول والشركات الخاصة.
أنجزت مركبة الهبوط اليابانية (SLIM) هبوطًا ناجحًا على سطح القمر قبل أسابيع في 19 يناير، ولكن هبطت هبوطًا مقلوبًا بسبب خلل في المحرك في أثناء النزول. كانت خلايا الطاقة الشمسية للمركبة تواجه الاتجاه الخاطئ وفشلت في تشغيل أجهزتها والتواصل، وهو ما دفع المهندسين لإيقافها خوفًا من نفاد البطارية. حاول المهندسون إعادة تشغيل المركبة مؤقتًا بعد 10 أيام، لكن الليل القمري القادم اختصر مدة المراقبة العلمية للمركبة إلى ساعات معدودة قبل أن تفقد الاتصال مجددًا.
واجهت مركبة فضائية أمريكية خاصة تُسمى (Peregrine) العديد من المشكلات بعد الإطلاق، بما في ذلك تسرب الوقود الذي منع المركبة من الهبوط على سطح القمر، وحُوِل مسارها في النهاية لتتحطم في الغلاف الجوي للأرض. واجهت محاولات هبوط أخرى على سطح القمر من اليابان وروسيا في عام 2023 حوادث تحطم مأساوية مشابهة، وهذه المرة على سطح القمر نفسه.
نجحت وكالات الفضاء التي تمولها حكومات خمس دول فقط في الهبوط على سطح القمر، وهي الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي السابق، والصين، والهند، واليابان. نجحت شركة خاصة واحدة (Intuitive Machines) حتى الآن، وفشلت العديد من المهام البارزة بسبب عيوب تقنية أدت إلى أخطاء حرجة في تقديرات السرعة والارتفاع والاتجاه، ما يذكرنا بوضوح أن القمر -الجار السماوي الأقرب إلينا- ما زال وجهة صعبة وخطيرة حتى بعد مرور نصف قرن على هبوط رواد أبولو على سطحه.
إذن، ما السبب؟ هل تراجعت قدرات البشرية في هبوط المركبات على سطح القمر؟ أم أننا نواجه تحديات في عصر جديد من التقنيات، تمامًا كما حدث مع فرق المهام الفضائية أبولو؟
صرح بالوتاي، أستاذ الفيزياء وعلوم الفضاء على موقع (Live Science): «نحن لم نصبح أقل ذكاءً منذ مهام أبولو». تتطور التقنيات تطورًا كبيرًا اليوم؛ فالهاتف الخلوي مثلًا يتمتع بقدرة حسابية أكبر من الحواسيب في السبعينيات. أضاف قائلًا: «لكن منذ السبعينيات، لم نكن نمتلك رواد فضاء وطيارين يعملون على المركبات الفضائية لتصحيح ما لا يمكن للحواسيب تصحيحه أو التعامل معه».
التقدم في التكنولوجيا مرة أخرى:
لا شك بأن الهبوط على القمر أمر صعب، سواء كان هناك طيارين بشريين أم لا.
إحدى العقبات الرئيسية هي عدم وجود غلاف جوي كامل على سطح القمر؛ فالغلاف الجوي القمري رقيق جدًا ويتغير مع الوقت، ما يمنع المهندسين من استخدام مظلات لإبطاء المركبات الفضائية، وفقًا لتصريح بالوتاي. بدلًا من ذلك، تستخدم المهمات أنظمة دفع مدعومة بالوقود للهبوط على سطح القمر، ما يجعل من الصعب إبطاء المركبة من سرعة تصل إلى عدة كيلومترات في الثانية إلى توقف تام. مع ذلك، فإن هذه التحديات وغيرها من تحديات استكشاف القمر ليست جديدة.
مع أن برنامج أبولو نجح أخيرًا في هبوط البشر على سطح القمر، فإن ذلك كان نتيجةً لبرنامج ضخم فشل مرارًا في طريقه إلى النجاح. كانت المحاولات الأولية التي قامت بها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لإرسال مركبات فضائية إلى القمر مليئة بالإخفاقات، بما في ذلك انفجارات بعد الإطلاق، وعطل في أنظمة التوجيه، وأخطاء فادحة في نشر الألواح الشمسية. حتى مهمة أبولو 11 التاريخية، التي هبط فيها رواد الفضاء نيل أرمسترونغ وباز ألدرين على سطح القمر، واجهت مشكلات جدية بالوقود؛ فقد كان منخفضًا انخفاضًا يدعو للقلق، وواجهت عدة إنذارات غير متوقعة تسبق الهبوط بلحظات قليلة.
قال بيرنز، مدير شبكة الاستكشاف وعلوم الفضاء الممولة من وكالة ناسا: «يتجاهل الناس عادةً هذا الفشل الذي يُعد جزءًا من عملية التعلم».
يوافق بيرنز وغيره على أن كل شيء تقريبًا قد تغير منذ برنامج أبولو، بما في ذلك التكنولوجيا المتقدمة التي سمحت للبشر بالهبوط على سطح القمر والعودة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. بنى مهندسو برنامج أبولو أول أجهزة الكمبيوتر في تلك الحقبة الزمنية، بما في ذلك أجهزة الاستشعار التي أصبحت منذ ذلك الحين أكثر قوة بجزء صغير من أحجامها الأصلية. لم تعد معظم البرمجيات والتكنولوجيا التي خُصصت لبرنامج أبولو فعالة اليوم للاستخدام في المهام الفضائية.
تابع ثورنتون، الرئيس التنفيذي لشركة (Astrobotic Technology) التي بنت وأدارت مركبة (Peregrine): «لقد غادر الجيل بأكمله الصناعة في الوقت الحالي، وفُقد الكثير من تلك المعرفة، إننا نعيد تعلم كيفية القيام بذلك باستخدام تكنولوجيا جديدة ومختلفة».
بعد نصف قرن من آخر مرة خطا فيها الإنسان على سطح القمر، تولت منظمات أصغر من «ناسا» -بفضل جيل جديد من المهندسين- المهمة نفسها التي نفذتها في الماضي الحكومات فقط. يعد كل من بالوتاي وثورنتون وبيرنز الإخفاقات الأخيرة في المهمات القمرية جزءًا طبيعيًا من تطور هذه الصناعة الجديدة.
قال بيرنز: «شخصيًا، لا أشعر بالقلق، إنه جزء من الآلام التنموية».
فتح الطريق للبعثات القمرية بتكلفة منخفضة:
رغم أن المشكلات التكنولوجية تؤثر في نتيجة المهمة، فإن التمويل يحدد مدى الاختبارات التي تُجرى على البرمجيات والأجهزة قبل الإطلاق لتقليل المخاطر.
قال ثورنتون بخصوص مهمة (Peregrine) المتوقع أن يستمر التحقيق في فشل مهمتها شهرًا أو شهرين: «إذا كان لدينا مليار دولار لتنفيذ هذه البعثة، فإن فرص نجاحنا سترتفع جدًا، لكننا نحاول تنفيذ ذلك بتكلفة أقل بكثير، ما يعني أنه يتعين تجربة المزيد من المرات قبل أن نصل إلى تلك اللحظة الفارقة التي نقول فيها: حسنًا، الآن نعرف بالضبط كيفية القيام بذلك بتلك التكلفة. دعونا نواصل القيام بذلك مرارًا وتكرارًا».
كان برنامج أبولو المحور الرئيسي لعمل وكالة ناسا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في أثناء سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكان لديها ميزانية تزيد بنسبة 10 مرات عن الميزانية الحالية لتنفيذ المهمة نفسها. بين عامي 1960-1973، أنفقت ناسا مبلغ 25.8 مليار دولار (ما يعادل 257 مليار دولار بتعديل لمعدل التضخم) على برنامج أبولو، وكانت تستحوذ على نحو 5% من الميزانية الفيدرالية الإجمالية للولايات المتحدة.
بالمقارنة، تتلقى وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» الآن أقل من 0.5٪ من إجمالي الإنفاق الفيدرالي للبلاد، وتتضمن هذه الميزانية أيضًا تمويلًا لبعثات فضائية خارج القمر.
قال ثورنتون: «هذا يغير كل شيء». في ذلك الوقت، كانت ناسا توافق على تطوير مشاريع تكلف عشرات المليارات من الدولارات. مقارنةً بذلك في الوقت الحالي، تحاول الصناعة بناء مركبات فضائية بتكلفة تقدر بنحو 100 مليون دولار، وهي تكلفة معقولة وأساسية للرحلات الروتينية. تختلف هذه المشكلة جذريًا عن تلك التي كانت في عصر أبولو. قال ثورنتون: «سيستغرق الأمر وقتًا لنتعلم كيفية القيام بذلك بتلك التكلفة».
يزيد أيضًا خفض تكاليف البعثات مخاطر الفشل على الأقل في المراحل الأولية، كما أفاد بارستو، أستاذ الفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء على موقع (Live Science): «لا ينبغي أن نكون مندهشين إذا لم تنجح بعض هذه الأمور».
الانتصار التجاري الأول:
كان الهبوط الناجح لمركبة الفضاء «أوديسيوس» إنجازًا مهمًا في صناعة رحلات الفضاء التجارية.
هبطت المركبة الفضائية «أودي» بنجاح لنقل 12 حمولة إلى سطح القمر، بما في ذلك ستة أجهزة علمية تابعة لناسا. دفعت وكالة الفضائية الأمريكية «ناسا» مبلغ 118 مليون دولار لشركة (Intuitive Machines) من خلال برنامج خدمات الحمولات القمرية التجارية (CLPS)، الذي صُمم لمنح الشركات الخاصة عقودًا لإرسال التجارب إلى القمر بدلًا من أن تقوم ناسا بذلك بنفسها (تكلفة مهام ناسا إلى القمر قد تصل إلى مليار دولار لكل مهمة).
تخطط شركة (Astrobotic) لإطلاق هبوط آلي آخر (Griffin) بوصفه جزءًا من البرنامج ذاته، إضافةً إلى مركبة تجوال تبحث عن الماء في نوفمبر المقبل.
اقرأ أيضًا:
اليابان تصبح خامس دولة تهبط بنجاح على سطح القمر
ترجمة: يزن عمران
تدقيق: ريم الجردي
مراجعة: هادية أحمد زكي