خلق شيء من لا شيء! نظرية كمية عمرها 70 عامًا تقريبًا، نجح بإثباتها فريق من الباحثين يعمل في جامعة مانشستر في يناير 2022، وكان ذلك صدفةً عند قيامهم بتجربة مصممة لدراسة تدفق الإلكترونات منخفضة التكافؤ، إذ نتج نظير من الجسيمات والجسيمات المضادة، وقد استخدموا في ذلك مجالًا كهربائيًا فقط والخصائص شبه السحرية لمادة الجرافين ثنائية الأبعاد.
ما يلفت الانتباه أن النظريات السابقة تنص على أن مثل هذه العملية تحدث فقط في بيئة محددة تكون فيها الطاقة فائقة مثل محيط الثقب الأسود أو مركز النجم النيوتروني، لكن هذا الفريق البحثي حقق هذا الإنجاز باستخدام معدات المختبر العادية.
توجد حالات محددة في الفيزياء يمكن فيها التلاعب بالجسيمات الفردية، ما يساعد على خلق جسيمات إضافية من -ما يبدو أنه- لا شيء، فإذا أخذت مثلًا الجسيم الكمومي ميزون وحاولت انتزاع الكوارك الخاص به، فسيؤدي ذلك إلى خلق مجموعة جديدة من أزواج الجسيمات والجسيمات المضادة بينهما. لكن هذه العملية تتطلب البدء بشيءٍ ما، وهو الميزون، ومن خلالهِ تُخلَق المزيد من الأشياء منه.
في عام 1951 اقترح عالم الفيزياء جوليان شفينجر (أحد مؤسسي علم الكهروديناميكا الكمية الحائز على جائزة نوبل 1964) أن خلق المادة من الفضاء الفارغ ينبغي له أن يكون ممكنًا، حتى لو لم يوجد شيء في البداية (ما دمنا نربك ذلك الفضاء الفارغ بمجال كهربائي قوي كافٍ لذلك). ومنذ ذلك الحين، عُرف هذا المفهوم النظري باسم تأثير شفينجر، وقد أثبت الباحثون أن هذا التأثير حقيقي عند اكتشافهم خلق شيء من العدم.
كتب إيثان سيغل شارحًا أساسيات هذا الإنجاز الجديد: «في الكون الذي نسكنه، يستحيل خلق لا شيء بأي طريقة، وفي الواقع على المستوى الأساسي، بالإمكان تفكيك كلّ شيء موجود إلى كيانات فردية كمية لا يمكن تقسيمها أكثر من ذلك، وتشمل هذه الجسيمات الأولية الكواركات، والإلكترونات، والنيوترينوات، وجميع نظائرها المضادة للمادة، بالإضافة إلى الفوتونات، والغلوونات، والبوزونات الثقيلة: W+، W-، Z0 وهيجز. لكن عند انعدامهم جميعًا، فإن المساحة الفارغة التي تبقت ليست فارغة تمامًا بالمعنى الفيزيائي».
ما تبقى هو المجال الكمومي، والطاقة الخلفية العامة التي تتخلل الكون بأكمله، فإذا طبّقنا مجالًا كهربائيًا ضخمًا بما يكفي على منطقة من الفراغ، فإن المجال الكمي للفضاء سيستولي على بعض من هذه الطاقة الكهربائية ويخلق أزواجًا من الجسيمات والجسيمات المضادة من العدم!
بالعودة إلى تجربة تدفق الإلكترونات منخفضة التكافؤ، عمل علماء في جامعة مانشستر على توصيل إلكترونات التكافؤ، في محاولة للحصول على كل فئات الإلكترونات للالتحاق بالتدفق من خلال التلاعب بالجرافين (وهو مادة ذات طبيعة ثنائية الأبعاد)، وهذا الهيكل الفريد -الذي يحد من مسارات الجسيمات الأولية مثل الإلكترونات- يساعد على أداء هذه التجارب عند ضخ كمية مناسبة من الطاقة الكهربائية في النظام.
ولكن ما إن بدأ الفريق تجاربه بالفعل، حدث شيء غير متوقع، فبعد ملء الفراغ بالإلكترونات وتسريعها إلى أقصى سرعة تسمح بها فراغات الجرافين (التي تبلغ 0.003 من سرعة الضوء)، تفاجأ العلماء بأن الإلكترونات قد أصبحت فائقة الضياء وهذا يوفر تيارًا كهربائيًا أعلى مما تسمح به القواعد العامة لفيزياء المادة المكثفة الكمية، وقد فُسِّر أصل هذا التأثير بأنه توليد تلقائي لحاملات شحنات إضافية (ثقوب).
إلى حد ما، لم يكن متوقَعًا خلق نظائر أزواج الإلكترون-البوزيترون في مساحة فارغة، لكن في الواقع، هذا المجال الكهربائي المستخدم على مستوى المختبر كان قويًا بما يكفي لخلق شيء فعلي من لا شيء.
كتب الباحثون في ورقتهم المنشورة: «السمات الرئيسية لحالة الخروج عن التوازن هي خصائص التيار-الجهد، وهذه الخصائص تشبه الموصلات الفائقة، والقمم الحادة في المقاومة التفاضلية، وعكس إشارة تأثير هول، والشذوذ الملحوظ الناجم عن إنتاج شفينجر لبلازما ثقب الإلكترون الساخنة».
كما اتضح، فإن بلازما ثقب الإلكترون الشاذة هي نظير مثالي لزوج الجسيم والجسيم المضاد الذي تنبأ به شفينجر.
وتعقيبًا على ذلك، فقد أثبت الفريق بالصدفة تأثير شفينجر بخلق شيء من لا شيء رغم استخدامهم مجالًا كهربائيًا منخفض الطاقة (مقارنةً بمركز ثقب أسود أو نجم نيوتروني).
يقول الدكتور روشان كريشنا كومار، أحد الكتاب المشاركين في البحث: «في أول مرة، عندما رأينا الخصائص المذهلة من أجهزة الشبكة الفائقة لدينا، تفاجأنا وقلنا قد يكون هذا نوعًا من الموصلية الفائقة الجديدة، ومع أن الاستجابة تشبه كثيرًا تلك التي نلاحظها عادةً في الموصلات الفائقة، سرعان ما وجدنا أن السلوك المحير لم يكن الموصلية الفائقة بل شيئًا في مجال الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات». هذا الشيء كان نتيجة تأثير شوينجر.
يقول المؤلف الأول للبحث، الدكتور أليكسي برديجين من جامعة مانشستر: «عادة ما يدرس الناس الخصائص الإلكترونية باستخدام مجالات كهربائية صغيرة تسمح بتحليلٍ نظري ووصفٍ أسهل، لذلك قررنا أن ندفع قوة المجالات الكهربائية قدر الإمكان باستخدام حيل تجريبية مختلفة حتى لا نحرق أجهزتنا».
قالت المؤلفة المساعدة الدكتورة نا شين إنها مفاجأة سارة جدًا مع أنها غير متوقَعة، وذلك نظرًا إلى المخاطر المحتملة عند استخدام أجهزتهم بالحدود القصوى.
لاحظ الباحثون أن تجاربهم كانت منخفضة الطاقة إلى الحد الذي يجعل إنشاء زوج إلكترون-بوزيترون حقيقيٍ أمرًا بعيد المنال،
ولكنهم يزعمون أن ثقب البلازما المكافئ الذي نشأ، يشكل دليلًا على أن تأثير شوينجر حقيقي، وأنه بالوسع خلق الجسيمات المادية من العدم (إذا توفر لها القدر الكافي من الطاقة).
لذلك، قد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تجلب معدات المختبر الكبيرة طاقة بما يكفي لخلق المادة من العدم، ولكن في ضوء نتائج التجارب التي قام بها فريق مانشستر، فقد أُثبتت رسميًا فكرة خلق شيءٍ ما من العدم.
يقول سيغال: «بعد خلق الإلكترونات والبوزيترونات (أو الثقوب) من لا شيء، وإنما من الفراغ الكمومي باستخدام الحقول الكهربائية، فإن الكون يُظهِر لنا مجددًا ما يبدو مستحيلًا … بإمكاننا حقًا خلق شيء من لا شيء».
اقرأ أيضًا:
ما أصل الحياة على كوكبنا؟ قد يكون تطور بروتينات معينة هو ما أدى لظهور الحياة
ترجمة: يزن دريوس
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: تسنيم الطيبي
