تدور البقعة الحمراء العظيمة بكوكب المشتري منذ مئات السنين، لكن يظل مصدر لونها الأحمر المميز لغزًا محيرًا. ستعمل التجارب المخبرية الحديثة على كوكب الأرض على محاولة إنتاج ذلك اللون، وغيره من الألوان المتواجدة بقمم السُحب فوق العاصفة العظمى بالمشتري، وقد وجد الباحثون أن درجة الحرارة والإشعاع يلعبان دورًا محوريًا في تغيير ألوان بعض المواد الشفافة المتواجدة في السحب فوق تلك البقعة. يعتبر مركب “بيكبريتيد الأمونيوم” هو السبب الأول المشتبه به في منح سُحب المشتري ذلك اللون، وهو نوع من الأملاح يتكون من الأمونيوم المتأين والكبريتات الثنائية. لكنه يتحلل سريعًا في ظروف الغلاف الجوي للأرض ودرجة حرارته؛ الأمر الذي يجعل فحصه والعمل على اكتشاف خصائصه تحديًا كبيرًا.
«أثبتت النماذج أن بيكبريتيد الأمونيوم هو ثالث أكثر مكونات سُحب المشتري تواجدًا بعد الأمونيا والمياه». هذا ما قاله (مارك لويفلر-Mark Loeffler) المتخصص في الكيمياء الفلكية بجامعة شمال أريزونا عبر رسالة بريدية لموقع Space.com، ويعمل لويفلر مع زميل أبحاثه الكيميائي (ريجي هادسون- Reggie Hudson) العامل بمركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا في ماريلاند على تصنيع ذلك اللون المميز لسحب المشتري معمليًا على الأرض.
أجرى العالمان ما يقارب الـ200 تجربة على بيكبريتيد الأمونيوم في محاولة لمطابقة لون البقعة الحمراء، بعد اصطدام الملح بمحاكاة الأشعة الكونية قارنا المشاهدات المرصودة بمشاهدات تليسكوب هابل الفضائي. قال لويلفر: «تطلَّب ذلك العمل بعض الوقت؛ لأنه لم يُنشر الكثير من قبل عن هذا المُركب، كما يبدو أنه ما زال أمامنا الكثير لنصل إليه».
مع رياحٍ تبلغ سرعتها 644 كم/ساعة بدأت تتشكل بقعة المشتري العظمى لمدة قاربت الـ150 عامًا على الأقل. في مطلع القرن السابع عشر، عام 1600 رصد علماء الفضاء مَعلمًا ضبابيًا ضخمًا على المشتري، ما قد يكون هو البقعة ذاتها، غير أن العلماء غير متأكدين ما إذا كانت هي نفس العاصفة التي نرصدها نحن في أيامنا الحالية أم لا.
بدأت العاصفة في الآونة الأخيرة بالانكماش والتقلص حتى بلغت عرض كوكب أرضٍ واحد، بينما كانت تُقدر سابقًا بمساحة ثلاثة كواكب من كوكبنا في اصطفافٍ عرضي جنبًا إلى جنب. وفي ذات الوقت قد بينت المشاهدات أن لون تلك البقعة آخذٌ بالتغير؛ مفترضين وجود تحولٍ ما في مكوناتها. يقول لويفلر: «إن بيكبريتيد الأمونيوم يتواجد في غلاف المشتري الجوي. ولا يوجد في حالة غازية حرة؛ إنما يكون مكثفًا ومضغوطًا على هيئة حبيبات ملحية تكون مختلطة أو مُغلفة بمواد أخرى».
إن بيكبريتيد الأمونيوم بذاته شفاف عديم اللون، غير أنه في سحب المشتري لا يوجد منفردًا؛ فالأشعة الكونية -الإشعاعات عالية الطاقة المسافرة عبر الفضاء- تقوم بقصف كوكب المشتري وما فيه من سحب باستمرار. تلك الأشعة القادمة من خارج نظامنا الشمسي وأيضًا من خارج مجرة درب التبانة باستطاعتها تغيير ألوان العديد من الأملاح كما أظهرت التجارب مؤخرًا.
ولتحديد كيفية تفاعل بيكبريتيد الأمونيوم مع الإشعاعات قام لوليفر وهادسون بتبريد حامل العينة لدرجة حرارة تُحافظ على صلابة الملح، وقاما بنثر الأمونيا المتأينة وكبريتيد الهيدروجين فتفاعل كلا المكونين لتكوين الملح المطلوب. بعد ذلك استخدما “مسرع الجسيمات” لصدم العينة مع البروتونات بسرعة عالية لتمثيل تأثير الأشعة الكونية على سحب المشتري.
وخلال هذه العملية تابعا ورصدا الجليد وجمعا كل المشاهدات في الأطياف المرئية وفوق البنفسجية، وغالبية تكرارات العملية قد استغرقت ما وصفه لويلفر بـ “يومٍ شاق”، واستمر بعضها طول الليل. غير أنه قد جمع تلك الخطوات كلها باختصار في «كان هذا ممتعًا».
وجد العلماء أن تباين واختلاف درجات حرارة الأشعة الكونية يؤثر وبشدة في لون الملح؛ فعند درجات الحرارة المنخفضة مثل -263 درجة سيليزية و-223 درجة سيليزية تحوَّل الملح إلى اللون البرتقالي، أو البرتقالي المائل للحمرة. وعند الدرجات المرتفعة كـ -153 درجة سيليزية و-113 درجة سيليزية يتحول الملح إلى اللون الأخضر. عزا العلماء تلك الصبغة الخضراء لوجود الكبريت، بالرغم من أنه لم يكتشف إلّا قدر ضئيل منه في تلك السحب، أقل من تلك التي تُنتج معمليًا.
قال لويلفر: «إن هذا يمثل تحديًا مثيرًا. يُعتقد أن درجة حرارة البقعة الحمراء هي التي تُنتج الأملاح خضراء اللون، وعلى الرغم من ذلك فإن لونها أحمر نقي كما نراه. سيكون رائعًا أن تكون تلك الألوان الحمراء التي نراها في درجات الحرارة المنخفضة مسؤولة عن لون البقعة الحمراء على المشتري، ولكن يبدو أنها باردة أكثر من الواقع».
إذن ما الدور الذي يلعبه بيكبريتيد الأمونيوم في تكوين ألوان عاصفة المشتري الأسطورية؟ ما زال العلماء غير متأكدين. يتحدد اللون المرئي لبيكبريتيد الأمونيوم -الأحمر أو الأخضر أو ما بينهما- عبر الطول الموجي للضوء المنبعث من مكوناته، لكن الصورة الكاملة للضوء المنبعث من تلك المكونات تحتوي أطوالًا موجية تتجاوز النطاق المرئي.
لذلك فالباحثون يقومون بمقارنة جميع الصور الكاملة للأطوال الموجية لبيكبريتيد الأمونيوم في درجات الحرارة المختلفة وبكميات مختلفة بتلك الصورة الكاملة للضوء القادم من بقعة المشتري. على الرغم من كون جليد بيكبريتيد الأمونيوم عند درجات الحرارة المنخفضة والكميات القليلة يعطي تطابقًا مُرضيًا مع ما رُصِد على الكوكب عند بعض الأطوال الموجية فهو لا يطابق جميع الأطوال الموجية التي اكتشفها العلماء في عاصفة المشتري العظيمة.
الجليد المشع عند درجات الحرارة العالية يعطي تطابقًا شاملًا أفضل، ولكن الأطوال الموجية المكونة للون الأخضر تظهر عدم تطابق واضح مع ما رصده تليسكوب هابل. قال العلماء في ذلك الشأن: «بعد المقارنة بالبيانات الجديدة لدرجات الحرارة المنخفضة يظهر بوضوحٍ أن التطابق الأفضل لبيكبريتيد الأمونيوم المنفرد هو الذي يتعرض للإشعاع ثم يُدفأ عند درجات حرارة مرتفعة لإزالة جزيئات الكبريت الخضراء».
يقول لويلفر مشيرًا إلى دراساته التي عمل عليها في 2016 إن تدفئة العينات الخضراء عند درجات حرارة مماثلة للموجودة في طبقة السحب النقية يؤدي لتخلص بيكبريتيد الأمونيوم غير المشع من أيونات الكبريت الحرة والمسببة للون المائل للاخضرار. تلك الدراسة بالتوازي مع ورقة بحثية أخرى من عام 1976 قد ركزتا على درجة حرارة منفردة وحيدة عند إشعاع العينة، وبالتوازي مع الدراسة الجديدة التي سوف تظهر في عدد شهر مارس من journal Icarus هي الأبحاث الوحيدة التي بلغت نتائج التجارب المعملية على بيكبريتيد الأمونيوم.
يقول لويفلر: «إن عدم التوازن بين الأملاح يجعل من التعامل معها تحديًا كبيرًا؛ فتلك المواد لها روائح كريهة أشبه بالبيض الفاسد وسوائل التنظيف. ولزيادة الأمان فإن المواد الزائدة تُخرج من الغرفة حتى لا يستنشقها أحد. والأسوأ من ذلك أن تلك العينات لها تأثير مدمر على محتويات المعمل؛ إنها بالفعل ليست المواد الأفضل للتعامل معها».
لكن كل هذا لا يردع العلماء؛ فالآن وبعد دراسة كيفية تفاعل بيكبريتيد الأمونيوم وتغيّره باختلاف درجات الحرارة وكمياته، يخطط العالمان لتضمين مركبات أخرى في تجاربهما، والتي من الممكن أن يكون لها إسهام ما في معرفة سبب لون البقعة العظيمة الحمراء بكوكب المشتري.
اقرأ أيضًا:
- بقعة المشتري الحمراء العظيمة هي في الواقع مصدر هائل للحرارة
- البقعة الحمراء العملاقة في المشتري تصغر في الحجم
- وصول رحلة مركبة الفضاء Juno إلى نهايتها على كوكب المشتري في الرابع من يوليو القادم
- ما هي وجهة ناسا بعد المشتري؟
ترجمة: محمد وسيم
تدقيق: براءة ذويب