تبدأ أنسجة القلب بالارتعاش والتشنج وفق إيقاع منتظم قبل وقت طويل من ولادتنا، ولا يتوقف هذا الإيقاع إلا في اللحظات الأخيرة من حياتنا. تُعد وظيفة القلب ميكانيكية جدًا ما قد يبرر لنا تجاهل تعقيداتها، لكن كل انقباضة فيه تمثل نغمة موسيقية تُعزف بحماسة أو برفق، يحدث ذلك تحت إشراف بنية من الأعصاب المتموضعة تحت طبقاته الخارجية.
تُعرف هذه المسارات العصبية باسم (الجهاز العصبي داخل القلب) الذي كان يُعتقد سابقًا أنه محض محطة عبور للمعلومات المنقولة من الدماغ والنخاع الشوكي. لكن علماءً من جامعة كارولينسكا في السويد وجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة كشفوا حديثًا عن مستوى مذهل من التعقيد في الخلايا العصبية التي تحيط بقلب سمكة زيبرا، ما شكّل تحديًا للنظريات السائدة حول كيفية الحفاظ على نبض القلب لدى الحيوانات والإنسان ضمنًا.
يقول عالم الأعصاب كونستانتينوس أمباتزيس بوصفه قائد الدراسة من معهد كارولينسكا:
«يمتلك هذا (الدماغ الصغير) دورًا رئيسيًا في الحفاظ على ضربات القلب والتحكم فيها، بطريقة مشابهة لآلية تنظيم الدماغ للوظائف النظمية المتناغمة مثل الحركة والتنفس».
ساد الاعتقاد بأن القلب يعمل ذاتيًا فترة طويلة، إذ ينبض بإيقاع منتظم وثابت تحت تأثير محفّز داخلي، حتى أن العديد من الثقافات اعتبرته (روح الحياة) نفسها. وفي القرن الثامن عشر، قدّم عالم التشريح الألماني ألبريشت فون هالر منظورًا جديدًا لاستقلالية القلب، إذ أشار في دراسته الفسيولوجية إلى امتلاكه (تهيّجًا داخليًا) يستثار بفعل الدم الداخل إليه.
أما في القرن التاسع عشر، فقد اكتُشفت العقد العصبية (حزم من الأعصاب الموجودة في قلب الضفادع) ثم تبين لاحقًا وجودها في قلب الإنسان أيضًا، وسرعان ما فُهم دورها بوصفها (ناظمات قلبية) تتحكم في معدل انقباض القلب وتقلصه.
كان هذا الاكتشاف نقطة البداية لقرونٍ من البحث حول قدرة القلب على الحفاظ على نبضه. وما يزال الجدل العلمي مستمرًا حول مدى تأثير الجهاز العصبي المركزي في تنظيم عمل القلب.
يُعتقد اليوم أن الدماغ يؤثر في وظيفة القلب بالجهاز العصبي الودي (المواجهة أو الفرار) والجهاز العصبي نظير الودي (الراحة والهضم). وذلك باستخدام مسارات عصبية تربط ألياف عضلة القلب المنتفضة بالعُقد المحيطية، التي بدورها ترتبط بحزم الخلايا العصبية في الجهاز العصبي المركزي، ما يسمح بتعديل معدل النبض استجابةً للمحفزات الكيميائية والمنبهات الحسية.
نظرًا لعقودٍ من البحث العلمي المتواصل، ليس مفاجئًا أن يظل النقاش حول تأثير الدماغ في القلب قائمًا حتى اليوم، لكن ما يزال لدينا الكثير لاكتشافه عن بنيته الفريدة.
في هذا السياق، استخدم أمباتزيس وفريقه مزيجًا من التوسيم المناعي، وتحليل RNA للخلايا الفردية، ودراسة الخصائص الكهربائية للأعصاب المنتشرة في نسيج القلب، لرسم خريطة تفصيلية للجهاز العصبي داخل قلب سمكة زيبرا.
كشف الباحثون عن تنوع مذهل في أنواع الخلايا العصبية، من بينها مجموعة فرعية تشبه الخلايا العصبية المولدة للنمط المركزي في الجهاز العصبي المركزي، وهي خلايا مسؤولة عن التحكم في وظائف أساسية مثل المضغ، والمشي، وحتى القذف.
ومع إن مئات الملايين من سنين التطور تفصل بين البشر وسمك زيبرا، فما زال هناك تشابه مذهل في فيزيولوجيا القلب والأوعية الدموية بينهما، ما يشير إلى أن معظم الفقاريات تمتلك هذه المسالك العصبية داخل القلب.
استنادًا إلى ما توصّل إليه العلم حتى الآن، يبدو من المحتمل أن قلوب الفقاريات تمتلك (دماغًا) أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقد، يتكوّن من:
- جهاز تنظيم ضربات القلب، المسؤول عن توليد الإيقاع الأساسي.
- منظّم وسيطي، يستمد إشاراته من الجهاز العصبي المركزي، ويحدد كيفية استجابة القلب للحالات المختلفة.
يقول أمباتزيس:
«فوجئنا من مدى تعقيد الجهاز العصبي داخل القلب. والفهم الأعمق لهذا النظام قد يفتح آفاقًا جديدة لفهم أمراض القلب، ويساعد على تطوير علاجات مبتكرة لاضطرابات النظم القلبي».
بعيدًا عن الفصل التقليدي بين القلب والدماغ، تطرح هذه النتائج تساؤلات جديدة حول كيفية تأثر الإشارات العصبية بالحالة الصحية، والنظام الغذائي، والنشاط البدني، ما قد يؤدي إلى اكتشاف أهداف علاجية جديدة تساعد على الحفاظ على انتظام ضربات القلب مع التقدم في العمر.
اقرأ أيضًا:
كيف يؤثر السفر إلى الفضاء على القلب البشري؟
كيف يؤثر العلاج الهرموني في صحة القلب والأوعية الدموية؟
ترجمة: رغد شاهين
تدقيق: يامن صالح