أعلن عالم الحيوان هربرت سبنسر جينينغز Herbert Spencer Jennings في عام 1906 عن اكتشاف جدير بالملاحظة، إذ وجد مثالًا على سلوك ذكي عند كائن عضوي مؤلف من خلية واحدة فقط يعيش في المياه العذبة، ويدعى Stentor roeseli.
زعم جينينغز أن هذا الكائن عديم اللون والشبيه بالبوق تحت المجهر يستطيع اتخاذ قرارات معقدة عند تحريضه، إذ غيّر هذا المتعضي استجابته وفق سلوكيات متدرجة دون مساعدة جهاز عصبي.
كانت هذه المشاهدات وما زالت واحدة من السلوكيات الأكثر تعقيدًا نسبةً إلى خلية منوّاة مفردة، ولكن أحدًا لم يستطع الحصول على نتائج مماثلة في ما بعد، وفي النهاية أُهملت هذه الفكرة. والآن بعد عقود من التجاهل، يبدو أن جينينغز كان على حق طوال تلك الفترة.
عند حدوث التنبيه، وجد الباحثون أن كائن Stentor roeseli يظهر كل السلوكيات التي وصفها عالم الحيوان جينينغز منذ كل تلك السنوات. مضيفًا دليلًا قاطعًا إلى نظريته المرفوضة منذ فترة طويلة.
يقول عالم الأحياء جيرمي غيوناواردينا Jeremy Gunawardena من مدرسة الطب في جامعة هارفرد: «الأمر الجذاب فعلًا في وصف جينينغز كان إظهاره اتخاذ قرار معقد، إذ غيّر المتعضي سلوكه بشكل فعال عند استجابته لذات المنبه. نعتقد إجمالًا أن هذه السلوكيات الإدراكية المستقلة تقتصر على المتعضيات التي تمتلك جهازًا عصبيًّا، لكننا نرى هنا أن هذا المتعضي أحادي الخلية يمتلك أيضًا هذه القدرات».
الهدبيات Ciliates هي كائنات معقدة غير عادية جذبت العلماء لفترة طويلة. تُعرف هذه المتعضيات بإظهارها «استجابات الهرب» في مواجهة أنواع محددة من الضغوط، وبالتالي يمكنها الاستناد والدوران عندما تواجه جدارًا، أو تسبح أسرع عندما تستشعر وجود مفترس ما في المياه المجاورة.
ولكن بينما تُظهر الأوالي الأخرى سلوكيات نجاة بسيطة مثل الاصطياد، والتنقل، والتزاوج، يبدو أن Stentor roeseli يقف في مقدمة الحديث عن الحزمة التطورية.
عندما تتعرض خلية من كائن Stentor للمس المتكرر مثلًا، تقل احتمالية تقبضها تدريجيًا. تُعرف هذه الاستجابة بالتعوّد، وهو شكل من التعلم غير الترابطي، لكن ما لاحظه جينينغز عند هذا الكائن كان مختلفًا.
عند التحريض الكيميائي لهذا النوع المميز، تلتف الخلية وتنحني، محركةً «فمها» بعيدًا، وإذا استمر الهجوم، تلوح الخلية بأهدابها لتمنع أي شيء من الاقتراب من منطقة الفم. إذا لم ينجح هذا، تتقبض الخلية. وإذا لم تؤدِّ الخطوات السابقة الغرض منها، ينفصل المتعضي غير المتحرك عادةً عن قاعدته بشكل كامل.
كان تتالي الخطوات الثلاث السابقة من السلوكيات المميزة أول ما دفع جينينغز إلى الاشتباه بتدرج السلوكيات. والآن، لأول مرة منذ ذلك الحين، أُعيد استخلاص ذات النتائج مرة أخرى.
بعكس الدراسات السابقة، والتي بُنيت على أنواع أخرى من الهدبيات وحيدة الخلية، وضع العلماء هذه المرة المتعضي الصحيح تحت المجهر مرة تلو أخرى على مدار عدة أشهر متتالية. ومع وجود S. roeseli في محلول، ألقى الفريق محرضًا كيميائيًا على عدة مراحل، وصوروا ردود أفعال المتعضي في كل مرحلة. بعد 60 تحريضًا مضبوطًا، حُللت استجابات المتعضي النوعية والكمية.
في النهاية، كانت النتيجة مطابقةً للتي خرج بها جينينغز. إذ أبدت هذه الكائنات سلوكًا بعيدًا عن التعود والتكيف الطبيعي.
يقول كاتبو الدراسة: «اعتبرنا تدرج السلوكيات شكلًا من أشكال اتخاذ القرار المتسلسل، بمعنى أنه عند إعطاء تنبيهات متشابهة بشكل متكرر، يغير المتعضي رأيه في طريقة الاستجابة، وبالتالي فهو يتبع تدرجًا ملحوظًا».
يقترح هذا التبديل في الأنماط السلوكية وجود مستوى من اتخاذ القرار يقتصر على الكائنات ذات الجهاز العصبي. منذ قرن مضى، قادت هذه الملاحظات جينينغز وعالمًا آخر يدعى جاك لوب Jacques Loeb إلى معركة مريرة حول ما إذا كانت الحياة مجرد كيمياء مادية، أو أن هناك شيئًا ما يشبه الإدارة الخلوية.
يعتقد عالم بيولوجيا النظم سكوت كويل Scott Coyle، الذي لم يشترك في الدراسة، أنها خارجةٌ عن الموضوع، بينما يوافق على أن النتائج الجديدة تقترح نوعًا من وجود تدرج السلوكيات، ويجد أن الادعاء بكون هذه العضويات «تغير رأيها» دراماتيكيًا.
يقول كويل: «بالنسبة لي، القول إن هذه الخلية تغير رأيها أو تتعلم هو أمر فاقد للمعنى أو التشويق مقارنةً مع اكتشاف التفاصيل الخفية لكيفية التراتبية المشفرة بالفعل في نظامها الجزيئي. أثق أن بعض الناس يجدون هذه القرارات مثيرةً للاهتمام، ولكن بالنسبة لي فهُم يخلطون الأشياء فقط ويحرضون على المجادلات اللفظية في موضوع فهم كينونة شيء ما؛ هل هو آلة، أم أن هناك بعض الحياة فيه».
من الصعب بعد كل هذا نسب أي نوع من الإدارة لكائن عضوي يتخذ قرارات مبنية على الصدفة. في الدراسة، على سبيل المثال، كان اختيار S. roeseli سلوك الانقباض أو الانفصال مشابهًا لاقتراع برمي عملة نقدية، وبينما يُعتبر هذا مثيرًا للإعجاب باعتراف الجميع بالنسبة لكائن عضوي أحادي الخلية، فهذه في الحقيقة طريقة إجبارية تدفعه لما يبدو أنه اتخاذ قرار أو «تغيير رأي».
إن كيفية اتخاذ هذا المتعضي قرارَه (أي رميه عملتَه الافتراضية) ما تزال غامضة، ومؤلفو الدراسة يمكنهم فقط تخيل الميزات التطورية التي قد تمنحها هذه الخاصية. من الممكن أن يظهر هذا بطريقة تهدف لإيجاد شريك مناسب، أو ربما تلعب دورًا في تجنب التكلفة العالية للانفصال عند إيجاد بقعة جيدة للحياة فيها.
هذه الأسئلة فاتنة بالفعل، لكن ما جذب كويل هو طريقة التراتبية في السلوك. مثلًا، يقترح كويل أن التحريض يمكن أن يغير عدد القنوات الشاردية (الأيونية) المتاحة، مسببًا سلسلةً لاحقةً من الهجمات تؤدي إلى إعطاء نتائج مختلفة.
يقول كويل: «ميكانيكيًا، يمكن أن يتخيل الشخص أن الاستجابات الانحنائية/الهدبية للاضطرابات الباكرة تقود إلى تبدل الحالة داخل الخلية، ما يجعلها أكثر استعدادًا لإنجاز سلوك التقلص أو الانفصال. وبرأيي، يعكس هذا ترميزًا ميكانيكيًّا مثيرًا للاهتمام بتدرج السلوك الذي سيكون تحليله أمرًا مثيرًا».
اقرأ أيضًا:
كيف تطورت الحياة متعددة الخلايا ؟
ترجمة: محمد ياسر جوهرة
تدقيق: علي قاسم
مراجعة: اسماعيل اليازجي