“لكن ما الضّرورة؟ ما الذي دفع كوبرنيكوس للتفكير بذلك؟” جال هذا السؤال في خاطري خلال الاستماع لمحاضرة أحد مؤرخي العلوم الأمريكيين عن نموذج كوبرنيكوس وبعض تفاصيله، قبل حوالي السنتين.
كان نيكولاس كوبرنيكوس، البولندي الأصل، قد اقترح نموذجا في القرن السادس عشر يقضي بأن الشمس لا الأرض هي المركز الذي تدور حوله الكواكب السيارة.
بعد نهاية المحاضرة سألت المحاضر سؤالي، فتلقيت إجابةً طويلةً غير مقنعةٍ، تتلخص بأن كوبرنيكوس فكر في هذا لوحده. بالطبع استمعت لإجابته بأدب ولكن أيضا بشكّ واضح.
بعد أسبوع أو اثنين من هذه المحاضرة، قرأت لدهشتي ولصدمتي تعليقا لأحد الأصدقاء، وصف كوبرنيكوس بأنه لصّ وبأنه سرق نظريته من العرب! كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف لمكتشف إحدى أهم الاكتشافات العلمية أن يسرق فكرته الكبيرة؟ ومِن من؟
ما أزعجني هو أني لم أفكر في فحص العلاقة بين الثورة الكوبرنيكية وعلماء الفلك العرب من قبل. فكيف أقبل رواية علميةً مبهمة حول تاريخ هذه الفترة الهامة وأنا الذي أشغف بفلسفة العلم وتاريخه لحد الولع.
إذن، أهدف في مقالي هذا البحث في مسألتين، الأولى هي أن أوضح الحقيقة الكامنة في ثنايا هاتين الروايتين المتناقضتين، هل هي في صف رواية المؤرخ الغربي أم صفّ الصديق العربي؟ أو ربما كلاهما، كما يقول مثلنا الشعبي، “يدير النار إلى قُرصِه”! المسألة الثّانية هي أن أسأل: وماذا إذا كانت الرواية التي تقول بأن كوبرنيكوس سرق فكرته هي الصحيحة؟ ماذا سيغير هذا؟
في هذه المقالة سوف أتحدث عن مفكرين من أبناء الحضارة العربية الاسلامية التي سادت في الشرق الأوسط، شمال أفريقيا والأندلس وأشير إليهم “بالعلماء العرب”.
من الواضح بأن هذا مصطلح ضيق إذا فهمناه من منطلق قومي، فهناك العديد من الفرس في هذه القصة، ولكن في المقابل مصطلح “العلماء المسلمين” هو أوسع مما يجب لأنه يشمل كل الثقافات التي تدين بالدين الإسلامي.
إذن، بالإضافة إلى “الحضارة العربية الإسلامية”، استخدام مصطلح “العلماء العرب” هنا هو للإشارة إلى اللغة التي استعملها هؤلاء للتعبير عن أفكارهم ونشرها، والثقافة التي من خلالها تفعّلوا. وهو استعمال لا أقصد به أي إيحاء بالقومية، التي هي، بكل الأحوال، مفهوم حديث.
الثورة الكوبرنيكية
في البداية سأقف قليلاً على أهمية هذه الحقبة التاريخية. أتى كوبرنيكوس بعد فترة طويلة من تبنّي الكنيسة الكاثوليكية فلسفة أرسطو وصهرها في لب عقيدتها المسيحية، لتصبح كلّ ديني وفلسفي متجانس.
نتيجة لهذا تحول نموذج بطليموس، الذي انبثق عن المنظومة الكونية الأرسطوطالية، من نموذجٍ يصف الطبيعة إلى نموذج يلبي مطالب نصوص دينية ويعكس نظام سرمدي إلهي أصبح تغييره أشبه بالمستحيل، لأن تحديه بات يعني تحدي الله بذاته.
خاصة وأن في حينه كانت حركة التصحيح اللوثرية وتداعياتها في أوجها. من هذا السياق، علينا رؤية الصِّعاب التي واجهت كوبرنيكوس واتباعه.
يسمي مؤرخو العلوم مرحلة الانتقال من نموذج بطليموس، الذي وضع الأرض في مركز الأجرام السماوية، إلى نموذج كوبرنيكوس، الذي يضع الشمس في المركز، باسم الثورة الكوبرنيكية.
ابتدأت هذه الثورة مع نشر كوبرنيكوس لكتابه “حول دوران الأجرام السماوية” في عام 1543، مروراً بقوانين العالم الألماني يوهانس كبلر الثلاثة حول حركة الكواكب السيارة ، واكتشاف جاليليو لأربعة من أقمار المشتري التي أثبتت بأن الأرض هي ليست مركز حركة كل أجرام السماء، ونهايةً برائعة نيوتن “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” في عام 1687.
يجدر التنويه بأن هناك الكثير من مؤرخي العلوم الحديثين ممن يتحدون مفهوم “الثورة” في هذا السياق، ولكن لحاجة هذا المقال سوف استعمل هذا المصطلح للتعبير عن ظاهرة التغير الفكري العميق الذي حدث في تلك الفترة بغض النظر عمّا إذا كان مصطلح “ثورة” يصف طبيعتها الحقيقية!
إذن، فهذه الثورة ليست من الثورات التي تحدث عادة في السياسة والتي يتوخى مؤيدوها تغيير العالم في لمحة من البصر. مثل هذه الثورات هي مجرد سراب وأوهام، لأن التاريخ والمجتمعات لا تتغير برمشة عين.
لا تحدث الثورات الحقيقية بين عشية وضحاها، بل هي تغيرات تدريجية متراكمة تعكس عمليات وتفاعلات عميقة، متشعبة، متشابكة وطويلة الأمد.
وهي تتطلب صبر وإصرار وجهد كبير من أعداد كبيرة من الناس والمؤسسات. الثورة الكوبرنيكية هي أكبر برهان على ذلك. فهي ملحمة فكرية لها أبطال وأوغاد وانتصارات وإخفاقات.
دارت أحداثها في بطون الكتب ومحافل العلماء وقصور البابوات. امتدت حيثياتها على مدى قرن ونصف، رأى العالَم خلالها ظهور النماذج الأولية للعلماء المعاصرين الذين يصبون لفهم الطبيعة وظواهرها كنشاط فكري وتجريبي منعزل عن الدين أو الأعراف السائدة في المجتمع، بل يتبعون الدلائل الرصدية والتجريبية أينما تقودهم.
كما وراح ضحيتها الكثيرين من العمالقة مثل جاليليو الذي سجن وجيوردانو برونو الذي أحرق. ولكن أهم نتائجها كانت تغيير مفهومنا للكون والفلك والطبيعة إجمالا، وانتصار الطريقة العلمية ومبناها التجريبي والمنطقي على الغيبيات التي تتجاهل بيِّنات الرصد والتجربة.
من الطبيعي أن هذه الثورة قد أدت إلى تحول تام في مجال فيزياء الفلك، ولكن في الحقيقة كانت نتائجها أبعد من ذلك بكثير.
فقد أدت أيضًا إلى تحولات جذرية في جميع مجالات الفيزياء والعلوم عامةَ والرياضيات والفلسفة وحقل الدراسات الدينية.
بل أكثر من ذلك، أدّت تداعياتها إلى انقلاب تام في مفهومنا لتعريف ما هو العلم، وأدت إلى ترسيخ المنهج العلمي بحيث أصبح المنهج الأساسي في دراسة الطبيعة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الثورة الكوبرنيكية النموذج الذي يحتذى والمعيار الواضح لكل دراسة تصبو إلى أن تكون “علمية” في كل مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية. من أشهر الأمثلة لذلك هي الدراسة التي قام بها فيلسوف ومؤرخ العلوم الأمريكي توماس كوون (Thomas Kuhn)، مؤلف كتاب “الثورة الكوبرنيكية”.
فقد اعتبرها كوون المثال الساطع للثورات العلمية التي تدفع بعجلة التقدم العلمي إلى الأمام واستخدمها لتكوين نظريته الشهيرة حول فلسفة العلوم، التي عرضها في كتابة “مبنى الثورات العلمية”.
لماذا تمخضت مشكلة جانبية تتعلق بحركة الأجرام السماوية، لا تهم إلّا قليل من الناس، عن هذا الانقلاب الهائل في مفاهيم البشر؟ هذا السؤال، كان وما زال محور عدد كبير من الأبحاث في تاريخ العلوم وفلسفتها وفي حقل دراسات التاريخ الثقافي والحضاري. لكن الأمر الذي أود التطرق إليه بداية، هو جذور نموذج كوبرنيكوس.
إذ تعطي أغلب المصادر الغربية الانطباع بأن بين بطليموس، الذي وضع نموذجه في عام 148 ميلادية، وكوبرنيكوس لم يأت أحد بشيء جديد، اللَّهُمَّ إلاَّ بعض من المفكرين الغربيين الذين سبقوه. أي أن كوبرنيكوس ولّد نظريته من إصبع جوبيتر.
فكما يقول توماس كوون في كتابه عن الثورة الكوبرنيكية: “لهذا، من نقطة رؤيتنا الحالية والمحدودة، أهمية الحضارة الإسلامية تكمن في الأساس بأنها حافظت ونشرت سجلات الحضارة الإغريقية العلمية للبحّاثة الأوروبيين الذين أتوا لاحقا”.
أي أن دور الحضارة العربية الإسلامية يتلخص بترجمة ونقل المعارف الإغريقية من اليونان القديم إلى الغرب، لا أكثر. فهي** لم تجدد شيئاً يستحق الذكر لتطوير المعارف الإنسانية والمضي بها قدما! هذه إجمالا الصورة الاستشراقية في الغرب عن مساهمة العرب.
وهي صورة مشوّهة ما زال معظمهم يرددها حتى اليوم، على الرغم من الأدلة الدامغة التي تقضي عكس ذلك! سأعود لاحقا لتعداد إسهامات الحضارة العربية في هذه المشكلة بالذات والتي لولاها لما توصل كوبرنيكوس لنموذجه.
كون أرسطو ونموذج بطليموس
لفحص العلاقة بين ما قدمه العلماء العرب و نظرية كوبرنيكوس، علينا أن نشرح بإيجاز نموذج بطليموس. يُعرف الكتاب الذي عرض به بطليموس نموذجية باسم “المجسطي” وهو العنوان الذي أعطاه إياه مترجمه إلى العربية (هناك عدة ترجمات للكتاب)، وهو ما زال يعرف به حتى اليوم في الغرب، Almagest.
يلخص كتاب بطليموس خلاصة المعارف البابلية والإغريقية في الموضوع ويبني نموذجه على أساسها.
تجلس المنظومة الكونية الأرسطوطالية في قلب النموذج البطلمي، أي علم الكون بحسب أرسطو. وهي المنظومة المركزية لفهم الطبيعة في العالم القديم. عرض أرسطو نموذجه الكوني في كتابه “في السموات” (On The Heavens)، وتوسع في بعض جوانبه لاحقا في كتابه “ما وراء الطبيعة” (Metaphysics).
تقضي المنظومة الكونية الأرسطوطالية بأن مركز الأرض هو نفسه مركز الكون وأن الأجرام السماوية المعروفة في حينه تدور بحركة دائرية متكاملة على سطح كرات معينة مصنوعة من “عنصر الأثير”.
وهو العنصر الخامس عند أرسطو (بالإضافة للماء والتراب والهواء والنار)، وهو موجود فقط في السماء ويتحرك بحركة دائرية مُحكمة (بعكس العناصر الأخرى التي تتحرك بخط مستقيم إلى أعلى أو أسفل). وآخر هذه الكرات، وهي الكرة التي تقع عليها النجوم البعيدة، تشكل سقف العالم ونهاية حدوده.
اعتمادا على هذه المنظومة، اقترح بطليموس نموذجا رياضيا مفصلا حول حركة سبع أجرام سماوية، وهي القمر والشمس والكواكب السيارة الخمسة الّتي كانت معروفة في حينه: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل. حركة النجوم البعيدة عادة تهمل لبساطة مدارها حول الأرض بحركة دائرية يومية من الشرق الى الغرب.
أصر بطليموس في نموذجه على اعتماد الدائرة كمسار الأجرام السماوية بحسب ما نصه كَوْن أرسطوطاليس، لكنه واجه مشكلة كبيرة، لأن حركة دائرية بسيطة حول الأرض لا تفسر مثلا، فصول السنة المختلفة، أو تغيّر حجم القمر الذي يظهر أحيانا كبيرا وأحيانا صغيرا، أو المسار الغريب الذي تتبعه الكواكب السيارة احيانا بحيث يظهر أن مسارها على صفحة السماء يتوقف ويعود القهقرى بحركة تراجعية (retrograde motion)، ثم يتوقف من جديد ليكمل دورته (كما تبين حركة المريخ المبينة بالصورة).
في ما يلي، سأعطي بإيجاز العناصر الأساسية لنموذج بطليموس، ولكن قبل ذلك أود أن أنوه بملاحظة عابرة بأن حركة الأجرام السماوية السبع هي أصل مفهوم “السموات السبع” الذي يظهر في حضارات مابين النهرين القديمة والحضارة الهندوسية والأدْيان التوحيدية الثلاثة.
يبين الرسم المرفق العناصر المختلفة في نموذج بطليموس. العنصر الأول هو إزاحة الأرض عن مركز الدائرة، بهذا استطاع مثلا أن يفسر تغير الفصول نتيجة لحركة الشمس.
لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير حركة الأجرام الستة الباقية حول مركز الأرض، لهذا أتى بالعنصر الثاني، وهو أن حركة الجرم السماوي تحددها حركة دائرتين، يدور مركز الصغرى منها، المسماة فلك التدوير (epicycle)، حول الكبرى، المسماة بالناقل (different).
استطاع بطليموس تفسير ظاهرة الحركة التراجعية التي تشهدها الكواكب السيارة عن طريق ملائمة حركة هاتين الدائرتين.
لكن حتى هذا لم يكن كافيا للتنبؤ بحركة الكواكب والشمس والقمر بالدقة المطلوبة. لهذا، أضاف عنصرا جديدا ومعقدا قليلا يحتاج إلى شرح.
تخيل أنك تجلس في مركز معين وتراقب جسما يدور حولك بحركة دائرية ثابتة ومنتظمة، سترى حينها بوضوح بأن هذا الجسم يقطع زوايا متساوية على محيط الدائرة التي يرسمها في أزمنة متساوية (الدائرة اليسارية من الرسم السفلي).
العنصر الذي أضافه بطليموس مختلف، وهو من أكثر ما أثار حفيظة منتقديه، فهو وضع نقطة خيالية مقابل الأرض تبعد عن المركز بقدر مساو لبعدها عنه، سماها معدل المسار (Equant، أنظر الرسم العلوي). وهي النقطة التي منها يظهر مركز الفلك أن التدوير يقطع زوايا متساوية في أزمنة متساوية (الدائرة اليمينية من الرسم السفلي).
هذه الإضافة المهمة وغير المفهومة تصف شيئا غريبا؛ يدور الجرم السماوي حول المركز بحركة دائرية، لكنها تظهر بأنها حركة منتظمة (ذات سرعة دوران ثابتة) من نقطة أخرى، وهي نقطة معدل المسار، وفي الوقت ذاته لا يوجد شيء في هذه نقطة! علينا أن ننوه هنا بأننا نفهم اليوم مصدر نقطة معدل المسار الخيالية على أنها نتيجة المركز الثاني للقطع الناقص (المسار البيضوي) الذي تسير به الكواكب السيارة حول الشمس.
من ال
واضح أن نموذج بطليوس معقد ويحتاج إلى العديد من الكرات ودوائر الناقل وأفلاك التدوير ومحاور دورانها. ولأول وهلة يظهر بوضوح التناقض بينه وبين كون أرسطوطاليس، بالذات في مفهوم معدل المسار وفلك التدوير وإزاحة الأرض عن مركز الدائرة. هذا التعقيد الواضح حذى فيلسوفنا الكبير إبن رشد في كتابه “تفسير ما بعد الطبيعة” بأن يقول: “فإن علم الهيئة في وقتنا هذا ليس منه شيء موجود، وإنما الهيئة الموجودة في وقتنا هذه هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود”، وعلم الهيئة هو ما يقابل في يومنا هذا علم الفلك النظري.
لكن وعلى الرغم من ذلك، استمر نموذج بطليموس بكونه النموذج الأساسي لفهمنا للأجرام السماوية وحركتها، منذ اقترحه بطليموس في القرن الثاني للميلاد، على مدى أكثر من ألف عام. هذا لأنه وبالرغم من مشاكله البادية للعيان، استطاع أن يتابع مدارات هذه الأجرام وأن يتنبأ بمواقعها بدقة كبيرة نسبيا.
دور الحضارة العربية الإسلامية
في الخمسينات من القرن الماضي كان عالم الرياضيات الأمريكي، الذي كان يعمل في الجامعة الأمريكية في بيروت، (إدوارد كنيدي (Edward Kennedy يتصفح كتاب “نهاية السؤال في تصحيح الأصول” لعالم الفلك العربي ابن الشاطر− الذي عاش في القرن الرابع عشر وكان يحمل لقب موقِّت المسجد الأموي في دمشق.
لاحظ كنيدي لدهشته، بأن كتاب ابن الشاطر يحوي عددا من النماذج الفلكية الّتي كان يُعتقد بأنها ظهرت لأول مرة في كتاب كوبرنيكوس.
أي أن العلماء العرب عرفوا تلك النماذج قبل الغرب بأكثر من قرنين. أدى هذا الاكتشاف إلى سلسلة اكتشافات أخرى دفعت مؤرخي العلوم إلى إعادة النظر بالعلاقة بين الفلكيين العرب من جهة، وبين كوبرنيكوس وأترابه من فلكيي عصر النهضة الأوروبي من جهة أخرى.
كما ودفعتهم إلى دراسة البدائل المثيرة للإعجاب لنموذج بطليموس، التي ابتكرها المفكرون العرب والتي كانت مبنية على تحديثات رياضية خلّاقة أثّرت بشكل جلي على انطلاق الثورة العلمية الغربية. ولكن قبل أن نتوسع بما فعله ابن الشاطر وغيره، دعونا نعود لكيفية تناول المفكرين العرب لنظرية بطليموس.
على الرغم من النجاح الكبير لنظرية بطليموس، ابتدأ نقد العرب لها منذ القرن العاشر ولكن الكاتب الأول الذي وضع نقدا منهجيا لنظرية بطليموس هو الفيزيائي الكبير ابن الهيثم في كتابه “الشكوك على بطليموس” الذي صدر في القرن الحادي عشر.
لاحقًا في القرن الثاني عشر، أثارت أعمال عدد من علماء الفلك في الأندلس، كالبطروجي وابن رشد، انتقادات إضافية على بطليموس (هؤلاء ذكرهم كوبرنيكوس في كتاباته).
ولكن الحركة الفكرية الأساسية التي عمليا دمرت النموذج البطليمي، نشأت في الشرق وكان مركزها مرصد المراغة (في إيران) الذي أسسه نصير الدين الطوسي وأخرج العمالقة كالطوسي نفسه، ومحيي الدين الأوردي وقطب الدين الشيرازي وعلاء الدين ابن الشاطر، الذي ذكرناه (الذي هو ربما أعظمهم)، وغيرهم كثيرين.
الانتقادات التي وجهها علماء الحضارة العربية الإسلامية لنموذج بطليموس كثيرة ومتنوعة، منها الفلسفي ومنها النظري ومنها الرصدي.
مثال على ما نقصده بالنقد الفلسفي، هو التناقض بين كون أرسطو ونموذج بطليموس، بالذات في ما يتعلق بإزاحة مركز الأرض عن مركز الدوران والنقطة الوهمية المسماة بمعدل المسار.
مثال على النقد النظري، هو استعمال بطليموس أدوات ونماذج رياضية مختلفة لتفسير حركة كل من الأفلاك، أي أن كل جسم منها تقريبا تطَلّب وصف خاص به، مختلف تماما عن الآخر.
ومثال على النقد الرصدي، هو تنبؤ نموذج بطليموس بتغيير حجم القمر شهريا بحوالي الضعف، وهو تغيير لا نراه في الواقع. في الحقيقة، عدد المشاكل أكبر بكثير وتعدادها 16 مشكلة أساسية. حل هذه المشاكل كان الدافع الأساسي للنماذج البديلة التي اقترحها علماء العرب.
ما ميز حركة علماء المراغة، والتي أحيانا يطلق عليها اسم ثورة المراغة، هو اعتمادها وسائل رياضية متطورة للغاية (مثل مزدوجة الطوسي ونظرية الأوردي)، واستعمالها من أجل التخلص مما اعتقدوا بأنها مشاكل أساسية في نموذج بطليموس.
أي أن العلاقة الوثيقة التي نعرفها اليوم بين النظريات العلمية والرياضيات قفزت قفزة جدّية جدا في أعمالهم ولربما كان هذا أهم تأثير لهم على تطور العلوم بشكل عام. ومن المذهل بأن أعمال هؤلاء العمالقة ظهرت في كتاب كوبرنيكوس بشكل جلي ولكن من غير أن ينوه بدورهم ولا بأسمائهم (سنعود لهذا لاحقا).
كما وامتدت هذه الحركة من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر. بل إن هناك بعض الأعمال لعلماء هذه الحركة التي ما زالت قيد الاكتشاف والتحري.
سأعطي هنا مثالا صغيرا لمثل هذه التحديثات الرياضية واسقاطاتها على نموذج بطليموس. المثال هو نظرية مزدوجة الطوسي: تنص هذه النظرية على أنه إذا كان هناك دائرتين متداخلتين، قطر الصغرى منها يعادل نصف قطر الكبرى، وبحيث تدور الصغرى داخل محيط الكبرى، عندها تتحرك كل نقطة على محيط الدائرة الصغرى بخط مستقيم.
كما يظهر في الشكل: الصليب الأخضر الموجود على نقطة معينة على محيط الدائرة الصغرى يتبع الخط الأسود المتقطّع عندما تدور الدائرة كما تبينه الحالات الثلاث.
ولكن ما علاقة هذا بحركة أفلاك السماء؟ العلاقة هي أنّنا استطعنا من خلال حركة دائرية بأن ننتج حركة خطية كحركة النقطة الخضراء بالشكل. وهذا يشبه الحركة التراجعية التي تبديها الكواكب السيارة.
بالإضافة إلى ذلك، من الممكن استعمال مثل هذه النظرية للتخلص من معدل المسار، تلك النقطة الغريبة التي لا تحوي شيئًا والتي يدور من حولها الكوكب السيار بمعدل ثابت.
في الحقيقة، اسقاطات هذه النظرية أبعد بكثير، فهي وبكل بساطة تحطم كون أرسطوطاليس.
ألم يدّعي أرسطو بأن الأثير في السماء يتحرك بحركة دائرية متكاملة، وتتحرك العناصر الأربع الأخرى على الأرض إلى أعلى أو أسفل بحركة خطية! ترينا إزدواجية الطوسي أنه من خلال حركة دائرية محضة نستطيع أن ننتج حركة خطية.
أي أن الفصل بين أنواع الحركة للعناصر المختلفة، مستقيمة ودائرية، هو ليس حقيقي. لكن لسبب من الأسباب لم يتناول الطوسي هذا الموضوع! لماذا؟ لا أعرف ولكنها حقيقة تجدر الإشارة إليها. سنعود الآن لقصتنا.
نحن نعلم الآن بأن كوبرنيكوس استخدم مزدوجة الطوسي بنفس الطريقة التي استعملها الطوسي والأوردي وابن الشاطر.
بل أكثر من ذلك، فقد نوه المؤرخ الألماني ويلي هارتنر (Willy Hartner) بأن كوبرنيكوس قد استعمل في كتابه “حول دوران الأجرام السماوية” رسما مماثلا جداً لرسم موجود في كتاب نصير الدين الطوسي “تذكرة في علم الهيئة”.
تظهر الصورة المرفقة مقارنة بين الرسم في كتاب كوبرنيكوس “حول دوران الأجرام السماوية” (على اليمين) والرسم الذي يظهر في كتاب نصير الدين الطوسي “تذكرة في علم الهيئة” (على اليسار).
ما نوه إليه هارتنر هو أن تسمية النقاط في الرسمتين مطابقة تماما A، H، D، B على المستقيم وG على محيط الدائرة الكبرى عند كوبرنيكوس وألف، هاء، دال، باء وجيم عند الطوسي ولنفس النقاط.
من الواضح أن رسم كوبرنيكوس يحوي دائرة ثالثة لم تظهر عند الطوسي، ولكن هذا التشابه يدل على أن كوبرنيكوس كان على علم بأعمال الطوسي أو، وهذا الأرجح، بأن رسمة الطوسي كانت رسمة معيارية معروفة جدا وصلت لكوبرنيكوس عبر زملائه ومعلميه من غير أن يعرف مصدرها الأصلي. بأية حال فهذا يؤكد على أن أعمال فلكيي مرصد المراغة كانت مألوفة لعلماء ومفكري القرون الوسطى في أوروبا.
سأنهي الحديث عن هذه العلاقة بين كوبرنيكوس والعرب بالعودة لابن الشاطر، وهو كما ذكرت العبقري الكبير في هذه المجموعة. فالادعاء الذي يدّعيه بعض مؤرخي العلوم هو أن الطريق إلى نموذج كوبرنيكوس تمر عبر ابن الشاطر.
التحديث الأساسي في عمل ابن الشاطر هو أنه أعاد الأرض إلى مركز الكون وتخلص من أدوات الإزاحة ومعدل المسار اللتين أضافهما بطليموس وأقلقا الكثير من علماء الفلك.
فقد ابتكر نموذجا رياضيا متقدما، استخدم فيه أدوات رياضية متطورة جدا واعتبارات نظرية محكمة، لكي يصف مدارات الأفلاك السماوية بواسطة حركات دائرية مركزها الأرض، تماماً كما أراد أرسطو. لهذا فقد ابتكر نموذجا رياضيا يعتمد فقط على أفلاك التدوير (التي ذكرت سابقا).
وفي الحقيقة، إن نموذج ابن الشاطر يكافئ نموذج كوبرنيكوس تماما من الناحية الرياضية، كما بيّن إدوارد كنيدي وطلابه في سنوات الخمسين والستين.
ونستطيع بسهولة أن نرى، كما يقترح مؤرخ العلوم جميل راغب، أن وجود نموذج مركزه الأرض بالفعل، كنموذج ابن الشاطر، جعل القفزة المبدئية الكبيرة التي صنعها كوبرنيكوس أسهل.
أي أن قفزة وضع الشمس في المركز، على الرغم من كبرها، هي بالتأكيد أبسط بكثير من القفزة التي كانت على كوبرنيكوس مواجهتها لو لم يكن يعرف نموذج ابن الشاطر.
على الرغم من هذا، لا يوجد اعتراف واضح في كتابه أو في أعمال الذين أتوا من بعده لدور عمالقة الحضارة العربية الإسلامية في تطوير أفكارهم!
علي في نهاية هذا القسم من المقال أن أواجه السؤال: ماذا كانت مساهمة كوبرنيكوس المبدئية؟ وهل “سرق” كوبرنيكوس كل نموُذَجه من العرب من غير أن يعطيهم حقهم؟ الإجابة على الشق الأول من هذا السؤال واضحةٌ، فحتى الآن لا نعرف أحد من قبله وضع نموذج رياضي متكامل وكمّي.
بحيث أن الشمس في مركز الكون − ادّعى الكثيرون بأن الشمس هي المركز (مثل اليوناني أرسطرخس الساموسي)، ولكنهم لم يأتوا بنموذج متكامل يطابق المعطيات الموضوعية، ومن الممكن استعماله للتنبؤ بحركة الأجرام السماوية.
بالرغم من الكثير من الادعاءات التي تظهر أحيانا، لا يوجد حتى الآن مصدر موثوق وواضح يدعم الادعاء بأن ابن الشاطر أيضا وضع الشمس في المركز! هذا لا يعني أنه ربما كان هناك بعض الكتابات التي كتبها ابن الشاطر والتي وصلت كوبرنيكوس ولكنها لم تصلنا، بحيث وضع فيها نموذجا مركزه الشمس.
في الحقيقة أنا أميل للشك بذلك، لأن جل أعمال ابن الشاطر كانت تهدف إلى توفيق النموذج الفلكي مع كون أرسطو، وخطوة نقل مركز الكون من الأرض إلى الشمس هي انتهاك سافر لكَوْن أرسطو وفهمه للطبيعة.
لماذا تجاهلونا؟
إذن، لماذا لم يعطِ كوبرنيكوس علماء العرب حقهم؟ هذه في الحقيقة نقطة أقل أهمية نستطيع تفسيرها بعدة حجج. أولا، معايير الإقتباس الشديدة التي نتبعها اليوم لم تكن موجودة في عهد كوبرنيكوس، فقلما اقتبس المفكرون في عصره ممن سبقوهم.
وحتى بحسب معايير الإقتباس الشديدة في عصرنا، فكثير من الأحيان لا يقتبس العلماء المصدر الأولي لفكرة ما، بل يقتبسون مرجع آخر يشير إلى المصادر الأولية، ومع الوقت ينسون المصدر الأول. وفي الحقيقة يكرر كوبرنيكوس في كتابه أنه يحاول حل المشاكل التي أشار إليها “السابقون” من غير أن يفصح من هم هؤلاء السابقين.
إضافة إلى ذلك، نحن نعلم أن كوبرنيكوس لم يكن يعرف العربية، فمن الأرجح أنه تكشّف أعمال علماء المراغة بشكل غير مباشر. ومن الممكن أن أعمالهم كانت أساس المعرفة الموجودة لعلم الفلك في الأوساط التي تعلم بها في جامعة بادوفا الإيطالية، حيث نعرف بأن المراجع العربية كانت موجودة.
أي أن كتابات علماء المراغة كانت جزءا من المعرفة العامة عن الموضوع من غير معرفة أسماء هؤلاء العلماء العينية (بالرغم أنه ذكر بشكل واضح أسماء عديدة أخرى لعلماء عرب في كتابه).
من الواضح أن هناك أسباب أعمق لهذا التجاهل، ليس فقط من قبل كوبرنيكوس (الذي قد نغفر له)، بل من قبل أجيال أخرى كثيرة من بعده من المفكرين الغربيين. لماذا هذا التجاهل؟ أولاً، كل حضارة تميل إلى أن تقتبس من مبدعيها وتعظّم دور نفسها وتعزي لمفكّريها حصة الأسد من الرصيد وتخصصهم بالمفخرة والاعتزاز.
فكم بالحري إذا كانت هذه الحضارة في طريقها إلى الصعود، وثقتها بنفسها وبنتاجها الفكري والعلمي والتكنولوجي في أوجها، بالذات في أولى فترات ارتقائها المجدد بعد سبات العصور الوسطى العميق.
بالفعل، ففي القرن الخامس عشر والسادس عشر ظهرت في أوروبا حركة النهضة الإنسانية (Renaissance Humanism) − التي تختلف عن حركة الإنسانية الحديثة − وكان لها تأثير كبير.
كان لهذه الحركة أوجه كثيرة إيجابية، ولكنها قررت أنها سوف تروي قصة حضارتها استنادا فقط على “جذورها” الإغريقية والرومانية وتتجاهل بشكل متعمد تقريبا أي مساهمة أخرى.
زد على ذلك بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت، وبمفهوم معين ما زالت، هي الوحيدة التي تشعر الحضارة الغربية إزاءها بالمنافسة الحقيقية، (لربما نتيجة لقربها الجوهري، الضمني والجغرافي).
كما أن الحضارة العربية الإسلامية تشكل تحدّيا واضحا لقصة الغرب التي تقول بأن حضارته ابتدأت من “المعجزة الإغريقية” التي لم يكن قبلها ولا بعدها شيء طوال 15 قرن من الزمن، اللهم باستثناء تطوير طفيف للرومان لها، لتعاود نشاطها وانتاجها في عصر النهضة في الغرب بقدرة قادر ولم يكن دور العرب سوى نقل معارف الإغريق إلى أوروبا، لا أكثر ولا أقل.
بالطبع، لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبته هذه القصة الحضارية المفتعلة في مشروع الاستعمار الغربي لاحقا. فهي التي سمحت لهم بأن يعتبروا أنفسهم وحضارتهم “أرقى” من الحضارات والشعوب الأخرى، مما سوغ لهم “حق” استعمارها والسيطرة عليها.
أي أن هذا التجاهل عبر التاريخ هو جزء من واقع أكبر وأعمق من مجرد اقتباس أعمال في علم الفلك أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها.
ماذا يغير هذا؟
إذن، الأساس الفلسفي والرياضي والنظري الذي بناه علماء حضارتنا كان الأساس المتين الذي ارتكزت عليه أوروبا لتقوم بنهضتها، كما هو جلي في أعمال كوبرنيكوس وأترابه (مساهمة مشابهة تظهر جليًا أيضًا في العلوم الطبية)، وهو الذي مهد الطريق للثورة العلمية الغربية.
فعندما نقرأ كوبرنيكوس، نرى بأن هاجسه الأساسي هو نفس هاجس ابن الشاطر والطوسي، والأوردي وغيرهم، وهو التخلص من الإزاحة ومعدل المسار من منطلق كونهما غريبين عن رؤية أرسطو.
والأدوات النظرية والفكرية التي استعملها لحل هذه المعضلات هي نفسها التي طورها فَلَكيّو المراغة. أي أن نظرية كوبرنيكوس وثورته هي، إلى حد كبير، ابنة نظريات مدرسة المراغة.
هل من المهم أن يعترف الغرب بتأثير الحضارة العربية الإسلامية على كوبرنيكوس وثورته؟ الإجابة على هذا هي نعم ولا!
نعم، لأن التاريخ هو أمر مهم. فمنه نتعلم الكثير عن طبيعة الحضارة الانسانية وتطور المجتمعات والتيارات العميقة التي تحكم هذا التطور وتميز التفاعلات عناصره المختلفة.
وفي هذا السياق بالذات، الدقة التاريخية في حيثيات انتقال المعارف الإنسانية وحدوث طفراتها الفكرية ونشوء تجديداتها الإبداعية، هي أمر في غاية الأهمية لفهم كيف طوّر الإنسان أرقى أفكاره، وأين تطورت، ولماذا.
على سبيل المثال، ذكرت في البداية توماس كوون ونظريّته الشهيرة في فلسفة العلوم التي نشرها في كتابه “مبني الثورات العلمية” − الذي يعدّه الكثيرون أهم كتاب في القرن العشرين − والذي فيه عرض تطور الأفكار العلمية من منظور تاريخي متخذًا الثورة الكوبرنيكية كالنموذج الأساسي لهذه الثورات.
نستطيع أن نرى بسهولة كيف ستغير قراءة تاريخية دقيقة لتأثير العرب على كوبرنيكوس في الصورة التي عرضها كوون.
أي أن أهمية التاريخ تكمن بالأساس في ما نتعلم منه. لهذا، يجب علينا قراءته وفهمه بشكل دقيق وموضوعي حتى نستخلص العبر الملائمة منه.
بالإضافة إلى ذلك، هناك حق تاريخي علينا لهؤلاء العظماء، كابن الهيثم وابن رشد والطوسي والأوردي وابن الشاطر وغيرهم، الذين يجب أن تصفّ أسماءهم بحروف من ذهب في أجمل صفحات التاريخ الإنساني إلى جانب أقرانهم من أبناء الثقافات الأخرى من الذين ساهموا في بناء الصرح الفكري المتين الذي وصلت إليه الإنسانية.
لأن هؤلاء ومثلهم لم يساهموا فقط في بناء حضارتهم، بل في الأساس، هم أبطال مسرح أرقى أشكال الوجود الإنساني، وإرثهم يعود لجميع البشر.
هؤلاء العمالقة هم أكبر مثال على أن المعارف البشرية ترتبط وتغني بعضها بعضًا. فلا توجد حضارة إغريقية نقية ولا عربية-إسلامية خالصة ولا غربية صافية ولا صينية محضة، إلخ. الحضارات الإنسانية مرتبطة ببعضها بروابط لا تقبل الكسر والتجاهل. وإنجازات الثقافات المختلفة تنتقل من مكان إلى آخر بطرق ومسالك عديدة أشبه بشبكة العنكبوت التي تؤثر كل نقطة فيه على الأخرى، بالرغم من أن هذه الشبكة تحاك حول مركز أساسي وأحيانا حول أكثر من مركز.
وهي لا تتطور في جزيرة منعزلة تغذي نفسها بنفسها. مثل هذه الجزر قد تنشأ ولكنها غالبا ما تتوقف عن التطور أو حتى تندثر وتنتهي بعد وقت.
قصة حضارتنا هي مثال لذلك، فقد ابتدأت جذورها في حضارات الشرق الأولى التي انتقل غناها لحضارة الإغريق (التي جذورها الحضارية في الحقيقة أقرب إلينا من الغرب)، الذين طوروها وأحدثوا بها قفزة نوعية كبيرة لتعود مجددا، هي والمعارف الهندية والفارسية وغيرها، إلى مسرح الحضارة العربية الإسلامية التي أحدثت بها قفزة نوعية كبيرة أخرى ومن ثم لِتنتقل إلى أوروبا في عصر النهضة التي استفادت منها ومن غيرها من التأثيرات الأخرى الكثيرة.
لهذه الأسباب، وكثير غيرها، علينا أن نعطي لكل جانب حقه!
أما نصف إجابتي الآخر فهو “لا”. أي أنه حتى لو سرق كوبرنيكوس كل أفكاره من العرب (وهو لم يفعل ذلك)، لم يكن هذا ليغير الحقيقة المرّة أنه منذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك، والغرب في صعود ونحن في تراجع.
في الحقيقة، فكرة أن الشمس هي مركز الكون لوحدها، كان مكتشفها من يكون، لا تعني الكثير. لأنها اكتسبت أهميتها مما فعله من لحق كوبرنيكوس بها، فهم الذين طوروها وحولوها لمفهوم متكامل عن الطبيعة، معزول عن الأفكار المسبقة لها.
حثّت فكرة كوبرنيكوس هذه المجتمعات على طرح الأسئلة الفلسفية العميقة، وعدم التردد بتحكيم العقل.
كما أعطاها الثقة بالنفس بألّا تخاف من سبر غور المجهول واتِّباع الدلائل حيث تأخذها دون تردد، حتى لو تناقضت نتائجها مع أقدس معتقداتها.
فهي فكرة واجهت الدوغمائية الدينية السائدة في حينه، وأدت إلى انتصار العقل والمنهج العلمي وأعطت الناس الجرأة على التساؤل والشك ورفض التزمت والانغلاق.
فحتى وإن دانت هذه المجتمعات لحضارتنا ببعض انجازاتها، فقد تطورت بالأساس نتيجة عمليات عميقة فيها أدت إلى تغيير مسار تاريخها.
وهذه التحولات بدورها هي وليدة تجارب وصراعات وطموحات، وحتى في الكثير من الأحيان، أطماع هذه المجتمعات. باختصار، حدثت الثورة العلمية في أوروبا لأن مجتمعاتها، برغم الصعوبات، احتضنت التغيير وسمحت لعلمائها وفلاسفتها بأن يطلقوا العنان لأفكارهم من غير أن يخشوا العواقب، وهذا، لا نستطيع أن ندعي أنهم “سرقوه منا!”
التاريخ، إذا لم نتعلم منه، حتى وإن كان مليئا بأمجاد خالدة، هو مجرد تاريخ. لم تخف حضارتنا في أوجها الفكري من تبني أفكار الفلاسفة الإغريق ولا امتنعت عن دراسة أفكار الحضارة الهندية ولا ورفضت أفكار الفرس ولا ترددت بأن تعطي أي مفكر حقه بغض النظر عن دينه وأصله.
ما ميزها هو انفتاحها وتسامحها والثقة بالنفس التي مكنتها من قبول الأفكار المختلفة. هذا هو طريقنا إلى الأمام وليس العويل والبكاء على ما سرق منا.
بل علينا المضي قدما بأقدام راسخة عميقا في أرضية تاريخنا المجيد ولكن بقامات تناطح السحاب، تنظر إلى الأمام بكل ثقة وعنفوان، من غير أن نخاف الانفتاح والتحدي وتحكيم العقل والتسامح والتعلم من الغير. فكما يصح أن نقول: ويل لأمة نسيت ماضيها، كذلك الأمر يصح أن نقول: ويل لأمة لا تفخر إلّا بماضيها!
إعداد: البروفيسور سليم زاروبي