ما مقدار إدراكك للوقت الحاضر؟ وهل تنتبه إلى الكلمات الموجودة في مركز مجالك البصري فقط، أم إلى كلّ الكلمات المحيطة به؟
نميل للاعتقاد أن وعينا البصري يمنحنا صورةً مفصّلة وغنية لكامل المشهد أمامنا، لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. يُظهِر ذلك اكتشافنا لوهمٍ بصري، نُشِر في مجلة (Psychological Sciences). لتوضيح مدى محدودية المعلومات الواردة من مجالنا البصري، اجلب مجموعة من أوراق اللعب (الكوتشينة). عيّن نقطة في الحائط المقابل لك وحدّق إليها، ثم اختَر بطاقة عشوائية، ودون النظر إليها احملها بذراعك اليسرى الممدودة إلى حافة مجالك البصري، وأبقِ نظرك على النقطة على الحائط واقلب الورقة تجاهك، وجرّب أن تخمّن لونها. ستجد ذلك صعبًا للغاية على الأرجح. قرّب البطاقة ببطء من مركز رؤيتك، وانتبه إلى النقطة التي يصبح عندها بإمكانك التعرف على لون البطاقة. من المدهش كم على البطاقة أن تكون قرب مركز إبصارك لتتعرف على لونها! فماذا عن نوعها أو رقمها؟
تظهر هذه التجربة المصغرة أن وعينا البصري غير مفصّل، بل غير دقيق أحيانًا. خاصةً لما هو خارج مجالنا البصري.
التزاحم: كيف يصبح الدماغ مشوشًا؟
إليك مثالًا آخر يبين كيفية اكتشاف هذه الظاهرة علميًّا. من فضلك ركّز بصر على علامة (+) على اليسار، وجرّب أن تعرف الحرف إلى يمينها (بالطبع، أنت تعرف ما هو، لكن تظاهر لوهلة أنّك لا تعرفه).
قد ترى الأمر صعبًا قليلًا، لكن ما زال بوسعك معرفة أنّ الحرف هو (A).
الآن، ركّز عينيك على (+) وجرّب أن تعرف الأحرف عل اليمين:
في هذه الحالة ستعاني ربّما في التعرف على الأحرف، وستبدو لك مثل فوضى من المعالم. أو قد ترى تداخلًا من المنحنيات والخطوط، فلا تستطيع تحديد الأحرف الموجودة، وهذا يُسمى التزاحم.
تستطيع أعيننا عادةً التعرّف على الأشياء ضمن مجال إبصارنا، لكنها تعاني عند وضع هذه الأشياء بجانب أشياء أخرى.
هذا التقييد في وعينا البصري مفاجئ. فالأحرف معروضة بوضوح أمامنا، لكنها مع ذلك عصية على الإدراك.
التزاحم هو موضوع مهم، ومحل نقاش في الفلسفة وعلم النفس وعلم الأعصاب.
ما زلنا غير واثقين من سبب حدوثه. وفقًا لنظرية رائجة، يحدث نتيجة فشلٍ ما، يُسمى دمج التفاصيل. لفهم ذلك نحتاج إلى تفصيل بعض الوظائف التي يقوم بها نظامك البصري.
تخيل أنك تنظر إلى مربعٍ أزرق، ودائرة حمراء. ينبغي لنظامك البصري ليس فقط استيضاح الأساسيات الموجودة -اللونين الأزرق والأحمر، والدائرة والمربع- بل عليه أيضًا الربط بين الأساسيات والأشياء.
قد لا تبدو هذه المهمة معقدة، لكنها ليست بسيطة للحيز البصري في الدماغ.
تتطلب مسألة الربط بين الاستدارة والحمرة لنفس الشيء في نفس الموقع الكثير من الحسابات المعقّدة. فعلى النظام البصري ربط الاستدارة بالحُمرة ليدرك انتمائهما إلى نفس الشيء، وكذلك الزرقة والتربّع. ذلك هو دمج التفاصيل.
وفقًا لهذه النظرية، فإن ما يحدث في التزاحم هو أن النظام البصري يستوضح الأساسيات الموجودة، لكنه لا يستطيع معرفة أي من الأساسيات ينتمي إلى أي شيء. لذلك ترى فوضى من السمات، ولا يستطيع عقلك الواعي التفرقة بين حرف وآخر.
وهم جديد:
اكتشفنا حديثًا وهمًا بصريًّا جديدًا، طرح أسئلةً جديدة على مؤيدي فكرة «التزاحم».
اختبرنا ما يحدث عندما يكون ثلاثة من الأغراض متطابقةً، كما في الحالة التالية مثلًا:
ماذا ترى عند النظر إلى (+)؟ أجاب أكثر من نصف الأشخاص بوجود حرفين فقط. وتبيّن أنهم واثقون تمامًا من ذلك!
هذه نتيجة مفاجئة. فعلى عكس التزاحم المعتاد، في هذه الحالة لا ترى تزاحمًا من التفاصيل، بل غاب حرف بأكمله عن إدراكك تمامًا. هذه النتيجة بالكاد تتوافق ونظرية «دمج التفاصيل». فالمسألة ليست أن النظام البصري يستوضح الأساسيات الموجودة لكنه يتشوش حيال أيّها يعود لأي شيء، بل أن شيئًا بأكمله قد اختفى.
إذن ما حدث ليس فشلًا في دمج التفاصيل، بل هو ما تسميه نظريتنا «إخفاء الفائض».
يجد النظام البصري وفرةً من نفس الحرف، لكن لا يستطيع تحديد العدد بدقة. ربما يعد معرفة عدد الأحرف بالضبط أمرًا لا يستحق العناء.
عندما نفتح أعيننا، نحصل بسهولة على صورة واعية عن بيئتنا، لكن العملية وراء خلق هذه الصورة ليست سهلة على الإطلاق.
تساعدنا الأوهام مثل إخفاء الفائض على استجلاء آلية هذه المعالجة، وتفسير الوعي ذاته في النهاية!
اقرأ أيضًا:
الاستيقاظ أمر يصعب القيام به: دور القشرة أمام الجبهية في الوعي
كيف يخلق الدماغ الوعي في شرائح زمنية؟
ترجمة: سِوار قوجه
تدقيق: أكرم محيي الدين