هل ستصبح الرفاهية والسعي لها وباءً؟ أم أنها أصبحت كذلك بالفعل ونحن في منتصف هذا الوباء؟ قد يبدو السؤال غريبًا أو متناقضًا، لكن عند إلقاء نظرة من حولنا سنجد فكرة الرفاهية والعافية والسعي لهما منتشرة في كل مكان حرفيًا، في المؤسسات الحكومية والمنظمات العابرة للحدود والمدارس وأماكن العمل وحتى الأسواق العامة.
ولكي نكون واضحين الانتشار الكبير للرفاهية في الخطاب العام ليس وحده ما يجعل الأمر أشبه بالوباء، وإنما سوء استخدام هذه الفكرة واستغلالها ما يؤدي إلى شعور حقيقي بالضيق.
قد يشعر أحد الناس مثلًا أن رفاهيته تخضع للمراقبة المتزايدة من أقرانه أو مديريه أو حتى شركات التأمين، إضافة إلى تزايد أعداد الإعلانات التي تروج إلى منتجات وخدمات تتعهد بتحسين الرفاهية عند استهلاكها.
هل يُحدث هوس الرفاهية تأثيرًا معاكسًا للتأثير المطلوب؟ من أجل فهم السبب من المهم أن يُنظر في أصول الرفاهية وسياساتها وتعقيداتها، إضافة إلى عملية النشر الممنهجة التي تسمى (غسيل الرفاهية).
تأثير الهالة
تعود الشكوك حول فكرة الرفاهية إلى قديم الزمان، لكنها أصبحت سمة أساسية في الحياة الاجتماعية المعاصرة، وأحد أسباب ذلك أنها تختلط غالبًا مع مفاهيم متنوعة مثل السعادة وجودة الحياة والرضا عنها وازدهار الإنسان وحضور الذهن والعافية.
الرفاهية مفهوم مرن يسهل إقحامه في سياقات مختلفة، لكنها أيضًا محاطة بهالةٍ ما، إذ أنها تستعمل تلقائيًا بمعنى إيجابي مثل مصطلحات أخرى كالأمومة والديمقراطية والحرية. والتشكيك بقيمة هذه الأفكار وأهميتها يضعنا أمام خطر الظهور كمفتعلي مشكلات أو غير مؤمنين أو غير وطنيين أو حتى أسوأ من ذلك.
يوجد مفهومان أساسيان للرفاهية حاليًا، الأول هو الرفاهية الشخصية ويؤكد على الصحة الشاملة للفرد (العقلية والبدنية والروحانية)، ويُعد أفضل انعكاس لهذا المفهوم هو دليل منظمة الصحة العالمية الخامس عام 1998 لقياس الرفاهية الشخصية عند الأفراد، إذ يستند إلى خمسة معايير هي البهجة والهدوء والحيوية والراحة والوفاء. وينبغي عدم الاستهانة بالتأثير العام لدليل منظمة الصحة العالمية، إذ أنه تُرجم لأكثر من 30 لغة وتبنته الحكومات والمؤسسات ثم نفذت سياساتها بناءً عليه.
فيما بعد، خضعت مصداقية هذا الدليل إلى المساءلة، إذ وُجد أنها تميل إلى المبالغة في التبسيط وتهميش وجهات النظر البديلة في الموضوع كأسلوب السكان الأصليين في التعامل مع الصحة البدنية والنفسية.
المسؤولية الفردية
ظهر المفهوم الثاني للرفاهية (الرفاهية الموضوعية) استجابة لتزايد الظلم الاجتماعي وعدم المساواة. يقدم هذا المفهوم بدائل إلى الناتج المحلي الإجمالي بوصفه مقياسًا للازدهار الوطني الشامل. ويُعد نظام معايير المعيشة في نيوزلندا هو من أحد الأمثلة، إذ يعتمد هذا النظام على أربعة مبادئ أساسية هي التوزيع والمرونة والإنتاجية والاستدامة.
تشير هذه التدابير الجديدة إلى التغيير المجتمعي والتفاؤل والأمل، والمفترض أنها أكثر تقدمًا للنتائج الاقتصادية والاجتماعية الوطنية. ولكن تكمن مشكلة هذه المبادرات في أنها تبقى مرتبطةً بنموذج نيوليبرالي معيّن يكون فيه سلوك الفرد هو أساس التغيير وليس المؤسسات السياسية والاقتصادية المحيطة به.
يُترجم هذا إلى مزيد من مراقبة التصرفات والأنشطة الشخصية وتأديبها، وتفسر الكثير من الشركات مبادئ الرفاهية وتستخدمها كي تعزز الهيكليات والتسلسلات الهرمية الموجودة، سواءً أكان ذلك عن قصد أو بعفوية.
بالنظر إلى كيفية تنفيذ أجندة الرفاهية في الشركات وأماكن العمل، يُلاحظ نمو أقسام أو وحدات عمل أو لجان جديدة أو سياسات وبرامج أو ورشات عن العافية يفترض أنها ترتبط بمفهومَي الصحة والرفاهية.
حتى أن أدوارًا جديدةً قد أنشئت كمدربي الرفاهية أو الفرق أو الأبطال، وانتشرت عروض كثيرة لممارسة اليوغا والتأمل والمشي في الطبيعة، ومجموعة أخرى من النشاطات الممتعة التي تهدف جميعها إلى دعم الرفاهية.
غسيل الرفاهية
تكمن الخطورة في أن هذه المبادرات باتت تُشكل مهمة إضافية شبه إجبارية، قد يصل الحد فيها إلى وصم الممتنعين عن المشاركة فيها، يزيد هذا من شعور التوتر أو حتى الإعياء.
تمثل هذه المبادرات والبرامج التي تنتشر بطريقة سيئة أو ساخرة جوانب من غسيل الرفاهية، وهي محاولة استراتيجية لاستخدام اللغة والصور والسياسات والممارسات بوصفها جزءًا من ثقافة المؤسسة للإشارة إلى شيء إيجابي وفاضل.
في الواقع، قد تُصمّم هذه البرامج لتعزيز الإنتاجية وخفض التكاليف والتحكم في مخاطر السمعة وإدارتها إضافة إلى تعزيز الامتثال للأوامر والسيطرة والمراقبة.
في النهاية، قد تكون الرفاهية مكانًا يشبه مجال القوة غير المحايد، إذ يُعزّز فيه الأطراف مصالحهم الخاصة على حساب الأشخاص الآخرين في كثير من الأحيان.
على هذا النحو، يجب على العلماء وواضعي السياسات والمواطنين استكشاف القيم وما تمثّله وأيّ الحسابات تهيمن وما نتائج ذلك وفيمن تؤثر. فإذا أصبحت الرفاهية وباءً قد نحتاج إلى لقاح للتفكير النقدي.
اقرأ أيضًا:
كيف نشأت دولة الرفاه في بريطانيا؟
ليزداد معدل ذكائك وتنعم بالرفاهية نم كثيرًا دون تقلبات!
ترجمة: ميس مرقبي
تدقيق: فاطمة جابر
مراجعة: محمد حسان عجك