يُعرَف هوس الطعام الصحي علميًا باسم Othrorexia nervosa، وهو اضطراب في الأكل يتميز أصحابه بهوسهم بالأغذية التي يرونها «نقية»، فيجبرون أنفسهم على تناول الأغذية العضوية وغير المعالجة دون غيرها، ويمتنعون عن تناول مجموعات كاملة من الطعام أو قد يقتصر غذائهم على الطعام النيء فقط.
يتعدى حرص المصابين بهذه الحالة الاهتمام الطبيعي لمعظم الناس بالتغذية الصحية، إذ يتطلب السعي إلى نظام صحي «نموذجي» قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد، ويؤثر في عمل الفرد أو دراسته أو علاقاته الاجتماعية. وقد يؤدي أحيانًا إلى الإصابة بسوء التغذية.
يوجد خلاف تشخيصي حول اعتبار هوس الطعام الصحي اضطرابًا نفسيًا، ولم يُدرَج لهذا في النسخة الأخيرة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 وهو الدليل التشخيصي الرسمي الذي تصدره الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين الذي حُدِّث آخر مرة سنة 2013 ويتضمن الإجراءات التشخيصية لكثير من الأمراض النفسية.
تقول جينيفر ميلز طبيبة علم النفس السريري في جامعة تورنتو: «يرى بعض الخبراء أن اضطراب هوس الطعام الصحي يمكن تصنيفه مرضًا نفسيًا، بينما يعترض آخرون ويرون أن تشخيص هذه الحالة بوصفها مرضًا نفسيًا سيجعل الالتزام بعادات الأكل الصحية مرضًا أو أمرًا غير محبذ. ومع ذلك فقد حظي هوس الطعام الصحي في السنوات الأخيرة بقدر متزايد من اهتمام الأطباء والباحثين».
أعراض الإصابة بهوس الطعام الصحي:
يقول توماس دان عالم النفس في جامعة كولورادو الشمالية: «يختلف هوس الطعام الصحي عن الالتزام الطبيعي المُحبَّذ بتناول نظام غذائي صحي، إذ يصبح تناول الطعام الصحي عند المصابين بهذا الاضطراب هاجسًا يدمر صحتهم النفسية وسعادتهم، قد تقتصر أعراض هذا الاضطراب على الأعراض النفسية في البداية، لكنها تتحول مع الوقت إلى عوز غذائي يؤدي في نهاية المطاف إلى الإصابة بأمراض عضوية مختلفة».
يجد المصابون بهذا الاضطراب أنفسهم يفحصون قهريًا قائمة المكونات ولصاقات معلومات التغذية على عبوات الأغذية المختلفة، ويمضون ساعات طويلة كل يوم في التخطيط لوجباتهم، وتزداد يوميًا قائمة الممنوعات في طعامهم لتشمل مجموعات غذائية كاملة مثل «كل أنواع الكربوهيدرات، أو كل مشتقات الألبان، أو كل السكريات» وفقًا للجمعية الوطنية لاضطرابات الأكل.
قد يؤدي هذا الاضطراب إلى إصابة صاحبه بالقلق المرضي «الحصر النفسي» الذي يمنعه من المشاركة في النشاطات الاجتماعية، إما لقلقه من وجود أغذية لا تتناسب مع نظامه الغذائي الصارم أو بسبب التخطيط للوجبات الصحية الذي يستهلك معظم وقته.
يعاني المصابون باضطراب هوس الطعام الصحي وفقًا لمقالة نُشِرت سنة 2015 في مجلة Neuropsychiatric Disease and Treatment، القلق الاجتماعي والعزلة لأن نظامهم الغذائي الصارم يصعِّب تواصلهم مع الآخرين في المناسبات الاجتماعية التي يتشارك فيها الناس تناول الطعام، إذ يشعر المصابون بضيق شديد عندما لا يجدون الأغذية «المسموح بها» في قوائم الطعام، ويسبب خرقهم أو كسرهم قواعد التغذية الصارمة التي فرضوها على أنفسهم شعورًا قويًا بالقلق والذنب، قد يؤدي إلى اعتزالهم المناسبات الاجتماعية.
أسباب الإصابة بهوس الطعام الصحي:
ليس الالتزام بنظام غذائي صحي ظاهرة حديثة، لكن اضطراب هوس الطعام الصحي ناتج عن الاتجاهات الثقافية الحديثة. يقول توماس دان: «تزداد نسب الإصابة بهذا الاضطراب بين العاملين في مجالات التغذية والصحة «مختصي التغذية»، أو العاملين في الترفيه مثل الممثلين، بسبب الضغوط التي يفرضها هذا النوع من المهن عليهم والصورة النموذجية التي يحاولون تقديمها للجمهور».
تساهم وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا في انتشار هذا الهوس، إذ وجدت دراسة نُشرت في 2017 في مجلة Eating and Weight Disorders، وجود أعراض واضحة للإصابة بهوس الطعام الصحي بين أفراد مجتمع «الأكل الصحي» على إنستغرام. ويتألف هذا المجتمع من خليط من المهتمين بالتغذية من المختصين وغير المختصين ومؤثري مواقع التواصل «influencers» الذي يشاركون منشورات كثيرة عن أنظمة التغذية الصحية. ووجدت الصحيفة أنه كلما زاد استعمال الشخص للتطبيق -يُعرَف ذلك بزيادة عدد المنشورات التي يشاركها- كلما زادت أعراض هوس الطعام الصحي لديه.
وتترافق الإصابة بهوس الطعام الصحي باضطرابات نفسية أخرى مثل القلق والاكتئاب، وفقًا لتقرير نُشِر سنة 2019 في مجلة Appetite. ووجدت دراسة أسترالية أخرى نُشِرت نتائجها في مجلة Eating and Weight Disorders سنة 2017 أن وجود تاريخ مرضي للإصابة باضطرابات أكل أخرى قد يزيد من خطر الإصابة بهوس الطعام الصحي، وهو عامل مساهم في الإصابة أكثر خطورة من حب الشخص للكمال أو الظهور بصورة جسم مثالية.
ما مدى انتشار هوس الطعام الصحي؟
يقول دان: «ليس لدينا إجابة دقيقة لمدى انتشار هوس الطعام الصحي، لكن لا يوجد فرق في نسب الإصابة بين النساء والرجال بمختلف المجموعات العمرية، إذ تتساوى نسب الإصابة بين جميع الفئات، لكن توجد مشكلة في محاولة قياس انتشار هذا الاضطراب، إذ تقتصر معظم الاختبارات الشائعة على قياس مدى اهتمام الشخص بالأكل الصحي، بدلًا من معرفة هل يعوق نظامه الغذائي قدرته على ممارسة حياته الطبيعية أم لا؟ وقد يؤدي هذا إلى أعداد متذبذبة أو مبالغ فيها».
أدى ذلك إلى نتائج متفاوتة تراوحت بين 6.9% من سكان إيطاليا إلى 86% من ممارسي «يوغا الأشتانغا» في إسبانيا. لكنَّ دراسة نُشرت في مجلة Eating and Weight Disorders سنة 2016، أخذت في الاعتبار تأثير النظام الغذائي في الصحة العضوية ونوعية حياة المشاركين، وقد اختير المشاركون في الدراسة عشوائيًا من عامة السكان. وقد قدَّر واضعوها اعتمادًا على مقاييسهم الأكثر صرامة أن نسب الإصابة بهوس الطعام الصحي بين المشاركين كانت أقل من 1%.
مقارنة بين هوس الطعام الصحي واضطرابات الأكل الأخرى:
تقول ميلز: «تتشابه أحيانًا أعراض هوس الطعام الصحي مع أعراض اضطراب أكل آخر هو فقدان الشهية العصابي المعروف علميًا باسم «Anorexia Nervosa»، إذ يمارس المصابون بكل من هوس الطعام الصحي وفقدان الشهية العصابي سيطرة صارمة على أنظمتهم الغذائية، ويخشون خرق قواعدهم الغذائية الصارمة حتى لا يشعروا بالفشل».
ويؤدي فقدان الشهية العصابي مثل هوس الطعام الصحي إلى خسارة شديدة في الوزن وسوء في التغذية وفقًا لمقالة نُشِرت في مجلة Neuropsychiatric Disease and Treatment سنة 2015.
لكن يوجد اختلاف مهم بين الاضطرابين. إذ يشعر المصابون بفقدان الشهية العصابي عادة بعدم الرضا عن جسمهم، بينما لا يوجد هذا الشعور بين المصابين بهوس الطعام الصحي. تقول ميلز: «يشعر كثير من مصابي هوس الطعام الصحي بالسعادة والرضا عن شكل جسمهم».
يوجد أيضًا تشابه كبير في تطور الأعراض بين هوس الطعام الصحي واضطراب الوسواس القهري OCD وهو اضطراب يميل المصاب به إلى التكرار القهري لبعض العادات الروتينية أو يعاني أفكارًا متكررة غير مرغوب فيها، وفقًا للجمعية الوطنية لاضطرابات الأكل. فعلى سبيل المثال، قد يخشى الشخص المصاب بالوسواس القهري الجراثيم فينظف بهوس تجنبًا للتلوث، تمامًا مثلما يمارس المصاب بهوس الطعام الصحي سلوكًا قهريًا بمحاولته جعل طعامه نظيفًا قدر الإمكان. توضح ميلز: «إنها طريقة تفكير قهرية مدفوعة بالخوف من نتائج بعض السلوكيات».
علاج هوس الطعام الصحي:
تقول ميلز: «لا توجد طريقة علاج واحدة متفق عليها لهذا الاضطراب، لكن يختلف العلاج من شخص إلى آخر. فقد نحتاج في بعض الحالات إلى التعامل مع الحالة بوصفها اضطراب أكل، فتُعتمد عندها طريقة العلاج المعرفي السلوكي، الذي يساعد المريض على تحديد أفكاره المشوهة أو المؤذية ومعتقداته عن الطعام واستبدالها. وقد يتضمن العلاج توعية غذائية صحية لمساعدة المريض على استعادة وزنه الطبيعي وعاداته الغذائية الصحية.
يُعالَج هوس الطعام في حالات أخرى وفقًا لميلز بنفس طريقة علاج الوسواس القهري، فيتعرَّض المرضى تدريجيًا للأطعمة والمواقف التي يخافون منها، ويساعدهم فريق العلاج على التعامل مع قلقهم بطريقة صحية.
تركز علاجات هوس الطعام الصحي عادة على تحديد أهداف بعيدة المدى للمصابين بعد تعافيهم. تقول ميلز: «يعتمد العلاج على تعاون المريض مع الفريق المُعالِج، ويُصَمم ليناسب الأهداف التي يضعها المريض لنفسه، ويجب على المريض أن يدرك أن قلقه هو ما يمنعه من تحقيق أهدافه، سواء كانت هذه الأهداف الاستماع بكعكة عيد ميلاد في حفلة أحد الأصدقاء، أو الذهاب إلى المطعم أو المشي إلى محل المثلجات في ليلة صيفية حارة».
اقرأ أيضًا:
المفاتيح الخمسة لاتّباع حمية صحية
حمية وتمرين ووزن صحي = عقد جديد يضاف إلى عمرك
ترجمة: بشرى عيسى
تدقيق: مصطفى شحادة
مراجعة: وئام سليمان