شرح العلاقة المُعقدة بين التنمر والانتحار
التنمر ظاهرة مُريعة تترتب عليها مجموعة كبيرة من العواقب إحداها تزايد احتمال ظهور مشاكل الصحة النفسية وحتى الانتحار ؛ بالنسبة للشخص الذي يتعرض للتنمر والشخص الذي يقوم به. ولكن، هل يعني ذلك أن التنمر، يُسبب الانتحار فعليًّا؟ هذا سؤال مُعقد للغاية. يبدو أنه ثمّة الكثير من الالتباس حول العلاقة بين التنمر والانتحار ، غالبًا ما يُشير تركيز التقارير الإخبارية على الانتحار المأساوي لليافعين والمراهقين إلى حوادث التنمر خصوصًا في المدارس .
يمكن أن يقودنا التركيز على هذه الحالات الفردية بسهولة إلى الاعتقاد أنه لا بد من وجود علاقة سببيّة بين التنمر والانتحار . وبعد ذلك، سنستمر في قراءة القصص التي يحدث فيها تنمر ويتبعه الانتحار.
هذه الوفيات مأساة رهيبة، والتنمر الذي تعرّض له هؤلاء الأولاد غير مقبول، لكن يجب علينا أن نكون حذرين حيال كيفية ذكر العلاقة بين هاتين الظاهرتين. عندما تُبلِّغ التقارير الإخبارية عن الانتحار المسبوق بحالات تنمر، تصبح الفكرتان مُرتبطتان على نحو وثيق في عقول القرّاء ويمكن ألّا تكون النتيجة التي تتبعها (يقود التنمر إلى الانتحار) دقيقة علميًّا بشكل كامل.
يُعدّ الفهم الصحيح للعلاقة بين التنمر والانتحار أمرًا ضروريًّا، فإذا افترضنا أن التنمر سبب كافٍ للانتحار؛ فإننا في هذه الحالة نقضي الكثير من الوقت والجهد على وسائل منع التنمر، باعتبارها تمنع الانتحار، لنكتشف بعد ذلك أن التنمر واحدٌ من عوامل كثيرة تزيد خطر الانتحار وأن التركيز على التنمر وحده ليس كافيًا لتجنّب المزيد من حالات الانتحار.
بمعنى آخر؛ قد يُصبح تركيزنا في غير مكانه ويمكن أن نكون متجاهلين لأسباب مُهمّة أخرى تجب معالجتها لكي نخفض فعلًا من خطر الانتحار. التركيز على التنمر لوحده كسببٍ للانتحار يعني أيضًا أن انتحار الأشخاص اليافعين هو بكامله بسبب زملائهم أو زميلاتهم في المدرسة. غرس الذنب عند الأولاد بعد انتحار أحد زملائهم منهج غير مقبول في التعامل مع تَبِعات الانتحار أو منع حالات انتحار مُستقبلية. وقف التنمر أساسي، لكن لوم الأولاد على موت أحد معارفهم ليس المنهج الصحيح.
ماذا نعرف عن العلاقة بين التنمر والانتحار ؟
كما ذُكر سابقًا، نعرف أن الاشتراك في التنمر، سواء الضحية أو المُعتدي يزيد خطر الانتحار. فضلًا عن ذلك، يمكن أن تؤدي رؤية حوادث التنمر إلى مشاعر من الضعف، وإلى ضعف الترابط والتواصل بين الطلاب في المدرسة، ويمكن أن يكون ذلك عامل خطرٍ لظهور مشاكل الصحة النفسية (على الرغم من أنه ليس العامل الوحيد).
من ناحية أخرى، لا يُبدِ معظم اليافعين المتورطين في حالات التنمر سلوكًا انتحاريًا، بالرغم من أنه يمكن للتنمر أن يكون واحدًا من عوامل عديدة للسلوك الانتحاري. من المهم دائمًا أن نضع في أذهاننا عدة عوامل خطورة عندما نتحدث عن الانتحار، فالقول إنَّ التنمر سبب وحيد للانتحار ليس فقط غير صحيح بل ويمكنه أن يكون مؤذيًا؛ هذا لأن عقلية السبب الوحيد تُكرّس فكرة أنه يمكن للانتحار أن يكون ردة فعل مفهومة ومقبولة على التنمر.
يمكن أن تؤدي هذه الطريقة من التفكير أيضًا إلى إعداد تقارير إخبارية مُحرّكة للمشاعر رأيناها في العديد من الحالات المذكورة أعلاه. تأخذ هذه الطريقة الانتباه بعيدًا عن عوامل خطر مُهمّة أقل إثارة للمشاعر، وإعداد التقارير عنها أقل سهولة؛ مثل المرض النفسي، وتعاطي المخدرات (الإدمان)، ومهارات التكيّف الضعيفة، والعائلة المُفككة.
مع ذلك، تستحق أن تؤخذ عوامل الخطر هذه بعين الاعتبار كما التنمر، ويجب أن تكون محورًا أساسيًا في أي استجابة مناسبة لاحتمال حدوث الانتحار. لكل هذه الأسباب، من الضروري للغاية ألّا نبالغ في الربط بين التنمر والانتحار. هناك بالطبع علاقة، لكنها ليست كما جعلتنا مُعظم التقارير الإعلامية نعتقد حول الموضوع.
وعلى الرغم من كل ذلك، ما زالت هناك بالطبع حقيقة حدوث التنمر، وهو عامل خطرٍ لظهور مشاكل الصحة النفسية وحتى الانتحار. على ضوء كل ذلك، من الضروري أن تفعل المدارس كل ما تستطيعه لتقليل انتشار هذا السلوك المُدمّر.
ماذا يجب أن تفعل المدارس حتى تمنع وتتصدى للتنمر؟
هناك العديد من السُبل تستطيع المدارس أن تستخدمها تساعد في وقف التنمر، وتعزيز صحة الطلاب النفسية. على سبيل المثال؛ تُعد البرامج الشاملة التي تزيد من الترابط والتواصل فعّالة لمنع ا لتنمر وتدعيم الصحة النفسية في المدارس وتعليم التكيُّف ومهارات الحياة، من ضمنها مواجهة الصدمات والتسامح مع الآخرين.
يجب على المدارس أن تضع سياسات متكاملة وقوانين لمكافحة التمييز في موضع التنفيذ، وتشكيل لجنة لمراجعة وتحديث هذه القوانين باستمرار، وضمان تطبيق هذه القوانين بطريقة واضحة للطلاب وعائلاتهم. من المرجح أكثر أن يتعرض الطلاب ذوو الميول الجنسية المختلفة والطلاب ذوو الخلفيات الثقافية المُختلفة للتنمر وأن يملكوا احتمالًا أعلى لمحاولة الانتحار؛ لذلك يجب تدريب طاقم المدرسة على كيفية حماية الجماعات المُستضعَفة.
وربما الأهم من ذلك، أن تأخذ المدارس كل حادثة (من ضمنها التنمر عبر الإنترنت خارج المدرسة) بجدية كبيرة وبتفاعل مُستمر. إذا كانت الاستجابة غير ظاهرة وغير مستمرة، يفقد الطلاب الثقة بالمدرسة ويمكن أن يَضعُف حس الترابط والتواصل عند هؤلاء الطلاب. العمل على مناخ المدرسة بأكمله أمر أساسي؛ إذ يمكن أن يُشكل المناخ الإيجابي في المدرسة عامل حمايةٍ كبيرًا للطلاب يُساعد في منع الانتحار والتنمر على حدٍّ سواء.
لا يمكن ترديد العبارة الشهيرة التي تقول «الترابط لا يعني السببيّة» كثيرًا؛ لأنه في حالات مثل الصلة بين التنمر والانتحار تُقابَل هذه العبارة بالتجاهل المُستمر. يجب على الصحفيين الاهتمام أكثر بكيفية نقل الترابط بين هاتين الظاهرتين حتى لا يستنتج قرّاؤهم أن إحداهما هي سبب مُباشر ووحيد للأخرى.
في حين تبقى العلاقة بين التنمر والانتحار معقدة وفي بعض الحالات مجهولة، من الضروري ألّا تُركز المدارس بصورة دقيقة على منع التنمر، كوسيلة وحيدة لمنع الانتحار. وإنما يجب عليها أن تُركز بصورة أعمّ على مساعدة الطلاب في بناء وغرس عوامل تحميهم من الانتحار. تحمل مثل هذه المُبادرات وعدًا عظيمًا في بناء أساس متين عند اليافعين في كل مكان.
اقرأ أيضًا:
التنمّر والانتحار: ما العلاقة بينهما؟
دراسة جديدة تقترح وجود اختلافات في التركيب التشريحي لأدمغة المراهقين المتعرضين للتنمر بانتظام
كيف يؤثر التعرض للتنمر في المدرسة على نوم الأطفال وصحتهم النفسية؟
التربية القاسية تدفع للتنمر وكذلك التربية المتساهلة
ترجمة: رؤى بركات
تدقيق: تسنيم المنجد