مرَّ معظم الناس دون أدنى شك بموقف النفخ على الطعام، فقد ينظر الشخص مثلًا إلى الفطائر الطازجة اللذيذة، ويتناول إحداها بيديه ويقربها من فمه، وعندما يقضمها فقط يدرك خطأه ويندم على ذلك بعد أن يشعر بأنها ساخنة جدًا، وعندها ينفخ بشدة على الطعام ليبرده. لكن ما صحة هذا التصرف؟ هل النفخ على وجباتنا الحارة يساعد فعلًا في تبريدها؟ ولماذا؟

لحسن الحظ بين أيدينا ما يكفي من البيانات ولدينا النظرية التي تحمل التفسير الملائم، ولكن قبل أن نشرح التفسير العلمي الكامن وراء تبريد الطعام الحار بالنفخ عليه، من الأفضل أن نتحقق من صحة هذه الظاهرة عمليًا. فمع إن الأمر يبدو بالفعل منطقيًا، لكن هناك جوانب أخرى محتملة تتسبب ببرودة شيء ما بعد النفخ عليه.

فمثلًا، الوقت المُستغرق للنفخ على الطعام قد يكون كافيًا لتخفيض درجة حرارته مع النفخ أو دونه. وقد يكون لطريقة النفخ أيضًا دور كبير في ذلك، وتقطيع الطعام إلى أجزاء أصغر قبل النفخ عليه يسرِّع أيضًا من تبريده بسبب زيادة مساحة السطح المواجه للهواء. ومن غير المستبعد أن يتعلق الأمر بعوامل نفسية، لأن تفكيرنا بأن النفخ على الطعام يبرده يجعل دماغنا يقتنع بالأمر ويخبرنا أن الطعام برد بالفعل بعد النفخ عليه.

يتطلب الأمر بعض البيانات الملموسة، والمشكلة هي شح هذه البيانات، إذ تبيَّن أن أيًا من المجلات العلمية الدولية الكبرى لا تهتم كثيرًا بمسألة النفخ على الأطعمة، ما استوجب بحثًا كبيرًا لإيجاد البيانات المطلوبة.

لكن قلة الاهتمام بالموضوع، لا تعني أن أحدًا لم يقم بالتحقيق حول هذا السؤال. ففي عام 2021 عمل كل من نيت بونهام وكالي جاد على تجربتين للتحقق من هذا الادعاء على قناة (تي كي أو آر) على منصة يوتيوب، مع إن النتائج لم تخضع لمراجعة الأقران.

يقول بونهام في الفيديو: «يعتقد الجميع أن النفخ على الطعام سيساعد في تبريده، ومع إنني أحب ذلك من الناحية النظرية، لم أختبر أبدًا مدى نجاحه في الممارسة العملية … من الواضح أن الأشياء ستبرد لأن الغلاف الجوي المحيط بها أكثر برودة، لكن إلى أي حد نستطيع تسريع هذه العملية بالنفخ على الطعام؟».

ظهرت النتائج مطابقة للمتوقع، فبعد دقيقتين كانت درجة حرارة سطح طبق من البطاطا المهروسة سريعة التحضير التي نُفخ عليها أبرد بنحو 8.33 إلى 10 درجات مئوية مقارنةً بعيّنة مطابقة من البطاطا لم تتعرض للنفخ، وظهر الاختلاف أيضًا عندما أُخذت العينات بكميات أقل (بحجم لقمة واحدة) بنحو درجتين.

وبإعادة التجربة على ملعقة طعام كاملة من حساء الطماطم، كان فرق درجة الحرارة أكثر، إذ قارب 3.33 إلى 4.89 درجة مئوية. وظهرت نتائج مماثلة بالنسبة لوجبات (هَت بوكيتس وهَت بيتزا) فقد فقدت الأخيرة حرارة أكبر مما خسرته الأولى، وهذا لأن (هَت بيتزا) ذات حجم أصغر.

إذن، يبدو فعلًا أن النفخ على الطعام لتبريده أمر ذو جدوى، على الأقل لتبريد درجة حرارة السطح، وهذا يتركنا مع سؤال، لماذا؟

ربما لم تجرَ التجارب الكافية عمليًا في سبيل إثبات تبريد الأشياء نتيجة النفخ عليها، لكن حين يأتي الأمر للرياضيات والفيزياء فنحن نملك التفسير الدقيق للمسألة. إذ تنتقل الحرارة من مكان أو جسم ما إلى آخر بثلاث طرق أساسية، هي التوصيل والحَمل والإشعاع، وبالنفخ على الطعام الساخن تحدث هذه الطريق الثلاث معًا، لكن الإشعاع والتوصيل ليس لهما تأثير كبير في العملية.

نبدأ بانتقال الحرارة بالإشعاع لأنه الأكثر انتشارًا والأسهل في الشرح، فهو يحدث عندما تُفقد الحرارة نتيجةً للإشعاع. وميزته أنه يحدث بالخلاء ولا يتطلب وسطًا لانتقال الحرارة، فبفضله تصل حرارة الشمس إلينا على الأرض رغم ملايين الكيلومترات من الفراغ الفاصل بيننا وبينها.

يُعد الإشعاع فعليًا أسرع أشكال انتقال الحرارة، لكنه في موضوع مقالنا الحالي الأقل أهمية. وذلك لأن عملية النفخ فعلًا لا تزيد من كمية الطاقة الحرارية التي تشع من الطعام، بل على العكس، إذ يُحدد معدل انتقال الحرارة بالإشعاع وفقًا لقانون ستيفان بولتزمان للإشعاع ويعتمد هذا المعدل كثيرًا على درجة حرارة الجسم، إضافة إلى انبعاثيته ومساحة سطحه. فحين ننفخ على قطعة صلبة من الطعام لا يتأثر معنا من العوامل السابقة سوى درحة حرارة الجسم، إذ تنخفض، وبانخفاضها فإنها تقلل مقدار الإشعاع الحراري للجسم.

الطريقة الثانية هي انتقال الحرارة بالتوصيل، وتحدث عندما تنتقل الحرارة بين جسمين عبر الاصطدامات العشوائية لذراتهما وجزيئاتهما، وبحسب ما قالت عالمة الكيمياء والكاتبة العلمية آن ماري هيلمنستاين في مقال لها في (ثووت كو) عام 2019:

«تتسبب الطاقة الحرارية في تحريك الجزيئات، تنتقل هذه الطاقة إلى جزيئات أخرى، إذ تتناقص حركة الجزيء الأول وتزيد حركة الثاني، تستمر هذه العملية حتى تصبح لجميع الجزيئات نفس كمية الطاقة».

وقد يكون التوصيل الحراري مألوفًا، فهو السبب في أن المعادن -التي تُعد موصلًا جيدًا للحرارة- تكون باردة عند لمسها، بينما يُستخدم شيء مثل الألياف الزجاجية لإبطاء انتقال الحرارة بشكل كبير.

لكن ومع ذلك، النقل الحراري بالتوصيل ليس ذا أهمية كبرى في موضوعنا الحالي، ويُعزى ذلك إلى أنه في جوهره يعتمد على تصادم الذرات مع بعضها، وعند النفخ على الطعام، تكون حالات التصادم بين الذرات قليلة نسبيًا.

وهذا يتركنا مع النقل بالحمل، العملية التي تنتقل بها الطاقة الحرارية في كل شيء، من غلاية الشاي إلى الظواهر الجوية العالمية. وهذه الطريقة بسيطة جدًا في جوهرها، فهي تحدث عندما يُدفع سائل أكثر سخونة -في حالتنا هذه الغازات- بعيدًا بواسطة سائل أكثر برودة.

حسب ما هو متوقع، كلما كان سائل الاستبدال أبرد، كانت عملية نقل الحرارة بالحمل أسرع، لأن الصيغة التي تحكم معدل انتقال الحرارة بالحمل الحراري تعتمد على ثلاثة عوامل، أولها معامل الحمل الحراري أي المقياس لجودة السائل الذي نتعامل معه في نقل الحرارة. ثم تأتي المساحة المكشوفة من السطح ثانيًا، وفرق درجات الحرارة بين السائلين هو الثالث.

ولخصت هيلمنستاين العملية قائلة: «عند النفخ على الطعام، تُدفع الأنفاس الباردة نسبيًا إلى مكان الهواء الساخن، فيزيد هذا من الفارق في الطاقة الحرارية بين الطعام ومحيطه، ويسمح بتبريد الطعام بسرعة أكبر مما كان ليحدث دون ذلك».

بالعودة قليلًا إلى طبق الحساء في بداية المقال، لماذا كان معدل تبريده أسرع من الطعام الصلب؟ يمتلك بونهام وجاد وجهة نظر حول ذلك: «نعتقد أنَّ الحساء كان ضحلًا جدًا وقادرًا على التحرك قليلًا. لقد كان أفضل كثيرًا في التبريد».

قد يكون تفسيرهما مجرد حدس، لكنه جيد، وحسب ما لوحظ بالتفسيرات أعلاه، فإن مساحة السطح لها دور مهم في مدى جودة نقل الحرارة، وعلى العكس من المواد الصلبة، النفخ على السوائل يزيد من مساحة سطحها بفضل التموجات التي تنشأ، ومن ثم تأثير التبريد سيكون فعالًا أكثر قليلًا.

لكن ذلك ليس السبب الوحيد، فقد كتبت هيلمنستاين: «عندما تنفخ على مشروب ساخن أو طعام يحتوي على الكثير من الرطوبة، فإن معظم تأثير التبريد يعود إلى التبريد التبخيري، الذي يتميز بتأثير قوي جدًا، وبوسعه خفض درجة حرارة السطح إلى ما دون درجة حرارة الغرفة».

عمليًا هذا ليس مثالًا لكل من التوصيل أو النقل أو الإشعاع، إنه نقل الطاقة نتيجة تغير الطور. شرحت هيلمنستاين ذلك بقول: «جزيئات الماء في الأطعمة والمشروبات الساخنة لديها طاقة كافية للهروب إلى الهواء، والتحول من الحالة السائلة إلى الغازية كبخار ماء».

النفخ على الحساء أو الشاي أو أي شيء آخر، ليس في المقام الأول طريقة لتبريد الهواء القريب من الطعام، بل وسيلة لإزاحة بخار الماء من محيطه، ما يخفض ضغط البخار من على سطحه ويسمح بتبخر المزيد من جزيئات الماء الموجودة بالطعام.

الخلاصة أن ما اعتدنا عليه صحيح، فالنفخ على الطعام الساخن سيجعله أكثر برودة، خاصة إذا كان سائلًا، وإذا لم تنجح العملية بسرعة كافية، بالوسع تقطيع الطعام إلى قطع صغيرة لزيادة مساحة السطح إلى أقصى حد.

اقرأ أيضًا:

درجة الحرارة – فيزيائيًا.. ما هي درجة الحرارة؟

كيف تنتقل الحرارة؟ تعرف على الطرق الثلاث لانتقالها

ترجمة: هشام جبور

تدقيق: تمام طعمة

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر