مع أن كوننا يبدو مستقرًا، إذ ظل موجودًا بعد مرور 13.7 مليار عام، تقترح عدة تجارب أنه يقترب من نهايته، فهو يسير على حافة جُرف خطير للغاية، ويرجع هذا إلى عدم استقرار جسيم أولي بعينه، هو جسيم بوزون هيغز.

في بحث جديد أجراه لوسيان هيرتييه وزملاؤه، وجدوا أن بعض نماذج الكون المبكر التي تحتوي على أجسام تُسمى الثقوب السوداء البدائية الخفيفة، ليس من المُرجح أن تكون صحيحة، لأن تلك الأجسام كانت ستؤدي إلى تحفيز جسيمات بوزون هيغز لإنهاء الكون.

جسيمات بوزون هيغز هي المسؤولة عن اكتساب المادة لكتلتها، والتفاعلات بين الجسيمات التي نعرفها، إذ إن كتلة الجسيمات هي نتيجة التفاعل بين الجسيمات الأولية ومجال يُسمى مجال هيغز، ولمّا كان جسيم بوزون هيغز موجودًا، فنحن نعلم بوجود مجال هيغز.

يمكن تخيل مجال هيغز مثل مياه ساكنة تمامًا في حوض استحمام يتغير توتر سطحه عند الغطس فيه. وله الخصائص المتطابقة ذاتها في أي مكان في الكون. ما يعني أننا نرى الكُتل والتفاعلات ذاتها في جميع أنحاء الكون. سمح لنا هذا التماثل بملاحظة التفاعلات الفيزيائية ذاتها على مدار آلاف السنين، «عندما ينظر علماء الفلك إلى الفضاء فهم في الواقع ينظرون إلى الماضي».

لكن من غير المرجح أن يكون مجال هيغز في أدنى مستويات طاقته. إن حدث هذا فهذا يعني أنه نظريًا قد يُغير حالته، ما يعني أن ينخفض إلى مستوى طاقة أقل في مكان معين. إن حدث هذا، فهو يغير قوانين الفيزياء التي نعرفها تغييرًا كبيرًا.

يمثل هذا التغيير ما يسميه الفيزيائيون «تغير الحالة». يشبه هذا ما يحدث عندما تتحول المياه إلى بخار، وتتكون الفقاعات خلال هذا الغليان. عندما تتغير الحالة في مجال هيغز، يتكون ما يشبه تلك الفقاعات: فقاعة منخفضة الطاقة بفيزياء مختلفة تمامًا.

في هذه الفقاعة منخفضة الطاقة، ستتغير فجأة كتلة الإلكترون، ومن ثم ستتغير التفاعلات بينه وبين الجسيمات الأخرى. وفجأة ستتغير مواضع البروتونات والنيوترونات «جسيمات تكوّن الذرة وتتكون من كواركات». أي شخص سيشهد هذا التغيير لن يستطيع غالبًا الإبلاغ عنه.

خطر مُستمر:

تشير القياسات الأخيرة لكتل الجسيمات -التي أُجريت في مُصادم الهدرونات الكبير في سيرن- إلى أن حدوث هذا محتمل. لكن لا داعي للهلع، فهذا لن يحدث إلا بعد مليارات السنين، بعد أن تنتهي الحياة البشرية. لهذا، يُقال عادةً إن الكون «مستقر إلى حد ما»، لأن نهاية الكون لن تحدث قريبًا.

يحتاج مجال هيغز إلى سبب كافٍ لتكوين تلك الفقاعة. بالرجوع إلى نظريات ميكانيكا الكم، أي القوانين التي تتحكم في الذرات والجسيمات، فإن طاقة مجال هيغز متقلبة دائمًا، ومن الممكن إحصائيًا «وإن كان من غير المرجح، لهذا السبب سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا» أن يكوّن مجال هيغز تلك الفقاعة من وقت إلى آخر.

لكن سيختلف الأمر حال وجود مصادر طاقة خارجية، مثل حقول الجاذبية القوية أو البلازما الساخنة «وهي حالة من المادة مكونة من جسيمات مشحونة»، فبإمكان مجال هيغز حينها أن يستعير تلك الطاقة ويكوّن فقاعات بسهولة أكبر.

مع أنه لا يوجد سبب يجعلنا نتوقع أن يشكل مجال هيغز أي فقاعات حاليًا، فإن السؤال الكبير في سياق علم الكونيات هو: هل أدت البيئات المتطرفة التي نشأت بعد الانفجار العظيم مباشرةً إلى ظهور مثل هذه الفقاعات؟

مع ذلك، عندما كان الكون شديد الحرارة في بداية تكوينه، ورغم توافر الطاقة للمساعدة على تكوين فقاعات في مجال هيغز، فإن التأثيرات الحرارية عملت أيضًا على استقرار مجال هيغز بتعديل خصائصه الكمومية. لذلك لا يمكن لتلك الحرارة أن تكون قادرة على التسبب في نهاية الكون، وربما هذا هو سبب بقائنا حتى الآن.

الثقوب السوداء البدائية:

في الدراسة الجديدة، أظهرت البيانات وجود مصدر وحيد للحرارة سيسبب حدوث مثل هذه الفقاعات في مجال هيغز باستمرار، هذا المصدر هو الثقوب السوداء البدائية، وهو نوع من الثقوب السوداء التي نشأت في بداية الكون نتيجة انهيار المناطق الكثيفة جدًا في نسيج الزمكان.

على عكس الثقوب السوداء العادية، التي تتشكل عند انهيار النجوم، فإن الثقوب السوداء البدائية قد تكون صغيرة للغاية وقد يصل وزنها إلى جرام واحد.

يعتمد على وجود مثل هذه الثقوب السوداء الخفيفة العديد من النظريات التنبؤية التي وصفت تطور الكون بعد حدوث الانفجار الكبير بفترة وجيزة. يشمل ذلك بعض نظريات نماذج التضخم الكوني، التي تُشير إلى أن الكون انفجر بشكل هائل الحجم بعد الانفجار الكبير بفترة زمنية قصيرة.

مع ذلك، فإن إثبات وجودها ليس بالأمر الهين، إذ أظهر ستيفن هوكينج في سبعينيات القرن العشرين أنه بسبب قوانين ميكانيكا الكم، تتبخر الثقوب السوداء ببطء، بإصدار الإشعاع عبر أفق الحدث الخاص بها «وهي النقطة التي لا يستطيع حتى الضوء الهروب منها».

أظهر هوكينج أن الثقوب السوداء يمكنها أن تسلك سلوك مصادر الحرارة الموجودة في الكون، إذ تتناسب درجة حرارتها عكسيًا مع كتلتها. ما يعني أن الثقوب السوداء الخفيفة أسخن بكثير وتتبخر بسرعة أكبر من الثقوب السوداء الضخمة.

إذا كانت الثقوب السوداء البدائية التي تكونت في بداية الكون أخف من بضعة آلاف المليارات من الجرامات «أقل من كتلة القمر بنحو عشرة مليار مرة»، كما تقترح العديد من النماذج النظرية، ستكون قد تبخرت بحلول وقتنا هذا.

في وجود مجال هيغز، تعمل تلك الثقوب السوداء البدائية مثل الشوائب في مشروب غازي –إذ تساعد الشوائب السائل على تكوين فقاعات غازية– بالمساهمة في طاقة مجال هيغز بواسطة تأثير الجاذبية «بسبب كتلة الثقب الأسود» والمساهمة في درجة حرارته المحيطة «بسبب إشعاع هوكينج».

عندما تتبخر الثقوب السوداء البدائية، فإنها تزيد حرارة الكون حسب موضعها. وتتطور وسط بقع ساخنة قد تكون أسخن من الكون المحيط بها، لكن أبرد من درجة حرارة إشعاع هوكينغ المثالية. أظهر الفريق أنه باستخدام مزيج من الحسابات التحليلية والمحاكاة الرقمية، فإنه بسبب وجود تلك البقع الساخنة، ستظهر الفقاعات في مجال هيغز باستمرار.

لكن كوننا ما زال موجودًا، ما يعني أنه من المرجح أن الثقوب السوداء البدائية لم تكن موجودة أصلًا. ومن ثم ينبغي لنا استبعاد السيناريوهات الكونية المعتمدة على وجودها.

هذا بالطبع لن يحدث إذا وجدنا دليلًا دامغًا على وجودها في الماضي الذي ننظر إليه، مثل الأشعة القادمة إلينا من بعيد أو موجات الجاذبية الثقالية. إن حدث هذا، فسيصبح الوضع أكثر إثارة. فقد يشير هذا إلى وجود شيء لا نعرفه عن جسيمات هيغز ومجال هيغز، شيء يمنع تكوين الفقاعات في ظل وجود الثقوب السوداء البدائية المتبخرة، ربما جسيمات أو قوى جديدة تمامًا.

على كل حال، فمن الواضح أنه ما زال هناك الكثير لاكتشافه عن الكون من أكبر المجرات إلى أصغر الجسيمات.

اقرأ أيضًا:

ما هو بوزون هيغز ؟

هل سيقودنا جزيء بوزون هيغز إلى الكشف عن فيزياء جديدة؟

ترجمة: محمد إسماعيل

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: باسل حميدي

المصدر