في بلد يوفر دخلًا مرتفعًا، يتوقع الموظف في بداية عمله الأول أن يتقاعد مُتأخرًا بسنتين في المتوسط مقارنةً بمُتقاعدي اليوم. في بعض البلدان، سيكون عمر التقاعد أعلى بكثير. إذ تُخطط الدنمارك إلى رفع عمر التقاعد إلى 74 سنة بحلول 2070.

رغم كل التغيرات التي طرأت في المجتمع وأسواق العمل ونُظم التعليم وسياسات التقاعد وتوجهاتها المختلفة خلال السنوات السبعين الماضية، ما زال سن العمل الذي تحدده البلدان الغنية، أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من 15 إلى 64 سنة.

تحديد سن العمل يساعد الأفراد على التخطيط لتقاعدهم، ويساعد الحكومات على إعداد مخططات للإنفاق. لكن من المُحير أن هذه الشريحة العمرية تظل هي المعيار في القياس.

في نهاية الأمر، ما زال عدد كبير من الناس خارج هذه الفئة يساهمون في الاقتصاد بطرق رسمية أو غير رسمية. حتى بأعمار التقاعد الحالية، تظل نسبة الأشخاص العاملين بين سن 65 و69 تُقدر بنحو 23% في المتوسط في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

تبين هذه المعطيات وجود مشكلة في التركيز على العمر الزمني حصرًا عند الحديث عن الحياة المهنية. في حين يرتفع سن التقاعد، يصبح مفهوم سن العمل كما نعرفه اليوم أقل أهمية. تحتاج المجتمعات إلى مقاربة مبتكرة وديناميكية أكثر.

من البدائل المستعملة في بعض البلدان فكرة العمر الوظيفي، وهو مقياس لقدرات جسدية وعقلية معينة، لكن هذا ينطبق فقط على مجموعة محدودة من الوظائف مثل الطيارين ومعاوني المطافي والشرطة، حيث يوجد تشديد على قدرات معينة مثل قوة البصر واللياقة البدنية والقدرة على اتخاذ القرارات.

إن جعل السن الوظيفية المقياس السائد ليس بالضرورة الطريقة المُثلى للتقدم، لكنه يوضح وجود طرق تفكير بديلة ممكنة.

تُظهر أبحاث «ساجية فردوس» الأستاذة المحاضرة في كلية إدارة الأعمال بجامعة بلفاست الملكية إنه ثم مقاييس أخرى مثل السن المعرفية والسن البيولوجية والسن الوظيفية والسن الاجتماعية -النظرة الذاتية للسن والمعايير السائدة اجتماعيًّا للسلوك الملائم للسن- لها تأثير في قدرات الناس على العمل وجني المال ودفعه. وقد لا تلائم هذه المقاييس دائمًا السن الزمني للشخص.

إضافةً إلى ذلك، قد لا يستطيع الأشخاص الذين هم في سن العمل المعتاد أن يجنوا قوت يومهم لأسباب عدة، منها الإعاقة أو مسؤوليات الرعاية -تجاه أفراد العائلة مثلًا. وقد تكون لدى مجموعات مختلفة -مثل المهاجرين- دوافع واهتمامات وفرص مختلفة للمشاركة في العمل بأجر.

إن تحديد معظم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية على حسب السن فقط له أثمان اقتصادية واجتماعية مباشرة، ويفاقم سلوكيات التمييز على أساس السن في المجتمعات وفي أماكن العمل.

مثلًا، يُنظر إلى كبار السن عادةً أنهم أضعف وأقل إنتاجية، وأنهم يتلقون المزيد، من المساعدات والمعاشات مثلًا. ويتعرض الأشخاص الأكبر سنًا لمزيد من العطالة والتمييز في مكان العمل. وغالبًا ما يفترض المشغلون أيضًا أن تدريبهم أصعب.

ببساطة، تساهم النظم الاقتصادية والاجتماعية في تعزيز الاعتقاد بأن العمر الزمني هو المقياس الأفضل.

مدى نفع كبار السن في المجتمع والاقتصاد:

جعلت الطبيعة الاعتباطية لهذه النظم من التمييز على أساس السن أمرًا مترسخًا فيها. ليس من المرجح أن تتغير تلك الأحكام المُسبقة إلا إذا أُعيد النظر في هذا التصور لكبار السن أنهم عبء اقتصادي واجتماعي.

هل حان وقت التغيير؟
ظهر مفهوم سن العمل على الأرجح في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، وهي فترة اتسمت بتطور اقتصاد العمل الحديث والثورة الصناعية. ولما انتقلت المجتمعات من اقتصادات زراعية إلى اقتصادات صناعية، صار فهم البنية العمرية للقوى العاملة بالغ الأهمية في التخطيط الاقتصادي الناجع.

سُنت قوانين مهمة مثلت معالم التشريع، مثل قانون مصانع المملكة المتحدة الصادر عام 1833 وقانون التعليم الصادر عام 1918 ، قيّدت عدد ساعات العمل للأطفال ورفعت السن الأدنى لمغادرة المدرسة من 12 إلى 14 سنة، وعبرت عن التأسيس لبنية رسمية لسن العمل. كان الهدف من هذه القوانين القضاء على استغلال عمالة الأطفال وتحسين ظروف العمال، رغم أن الاستثناءات لا تزال موجودة، الأطفال الفنانين مثلًا.

ومع أن الحد الأدنى لسن العمل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسائل المتعلقة بعمالة الأطفال، يظل الحد الأقصى قائمًا على معطيات عالمية تُشير إلى أن أغلبية الناس يمارسون العمل المأجور حتى سن 64 أو 65 تقريبًا. وتنخفض نسبة المشاركة في العمل بشدة بعد هذه السن.

هذه الفئة العمرية تُستعمل مؤشرًا لوضع سياسات التشغيل وأنظمة الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية والتوقعات والتحليل الاقتصادي. المنظمات العالمية الرائدة مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة العمل الدولية، تستعمل هذا التصنيف ما يسمح بجمع البيانات وإعداد التقارير بطريقة متناسقة على مدى الزمن وفي كل البلدان.

أحد المقاييس الحاسمة المستمدة من هذا التصنيف هو نسبة الإعالة، ويشير إلى عدد الأشخاص المعتمدين على غيرهم مقارنةً بعدد السكان في سن العمل. يساعد هذا على قياس العبء الاقتصادي على الجزء المُنتِج من السكان، ويعبر عن عدد الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الفئة العمرية ويعملون ويدفعون الضرائب للإبقاء على الخدمات والحفاظ على البنية التحتية.

عندما يحصل خلل في التركيبة السكانية بسبب كثرة كبار السن أو اليافعين الذين هم خارج هذه الفئة العمرية، يظهر عبء على الثروة والموارد الوطنية لوجود عدد أقل من الأشخاص المتاحين للعمل والإنفاق على استمرار الخدمات العمومية ومنظومات الرعاية.

إلا أن البنية الصارمة الحالية تضع المسنين في مواجهة اليافعين ما يخلق انقسامًا مصطنعًا. يؤدي هذا عادةً إلى توترات بين الأجيال ومنافسة على الموارد. وإن تحدد الحد الأقصى لسن العمل بطريقة تلائم سن التقاعد الذي تحدده الدولة، فإنه يظل اعتباطيًا، نظرًا إلى استمرار ارتفاع أعمار السكان.

قد تكون «نسبة التبعية النشطة» نظامًا بديلًا، إذ تُعتمد نسبة العاطلين اقتصاديًّا إلى نسبة النشطين اقتصاديًّا. لكن هذا لا يُعد قياسًا سليمًا هو الآخر، إذ إن الاستقلال المادي للأشخاص تُؤثر فيه عوامل اجتماعية وثقافية أخرى.

لا شك أن التغيرات في البنية الحالية ستكون مُعقدة وستستهلك الكثير من الوقت وتتطلب عدة مستويات من المراجعة وإعادة هيكلة المنظومات.

لكن التخلي عن البنى القائمة على العمر الزمني سيكون خطوةً في الاتجاه الصحيح. التغيير الشامل الذي يحل الارتباط بين السن والإجراءات الاقتصادية من شأنه أن يدفع المجتمعات إلى إعادة النظر في مدى أهمية السن الزمني مقياسًا، وسيساعد على التخلص من الانقسام المصطنع بين الأجيال.

إن اعتماد السن هويةً اجتماعية واقتصادية تفكير غير متوافق بالمرة. في عصر الهويات المرنة، حان الوقت لإعادة تقييم العلاقة بين السن والمجتمع والاقتصاد. تحتاج المجتمعات إلى مقاربة ديناميكية أكثر سلاسة تجاه السن، تعترف بأهمية الاحتياجات والمساهمات الاقتصادية وغير الاقتصادية على حد سواء.

اقرأ أيضًا:

صناديق المعاشات التقاعدية: ما هي؟ وما آلية عملها؟

كيف نشأت دولة الرفاه في بريطانيا؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: بدور مارديني

المصدر