هل جيناتنا فقط هي ما يحدد صفاتنا؟
إن استحداث عملية تتابعية ال (DNA (DNA sequencing method, وهي العملية التي نعرف من خلالها تسلسل النيوكليوتيدات في شريط ال DNA, والتي تزداد فعاليتها وقلة كلفتها المادية يوما بعد يوم, غيّر الكثير من جوانب الأبحاث الوراثية. وبشكل خاص فإن معرفة تتابع النيوكليوتيدات في المادة الوراثية الخاصة بالإنسان ما زال يغيّر فهمنا للكثير من جوانب الطب و بايلوجيا الإنسان. ولكن على أية حال علينا أن نتذكر وبدقة أمراً هاما وهو كون الجينات وحدها سوف لن تحدد مصيرنا, فالعوامل البيئية والصدفة أيضا تلعب دوراً مهماً في هذا المضمار.
أتذكّر نقاشاً مع الحائز على جائزة نوبل ميخائيل براون (Michael Brown) في الملتقى العلمي قبل سنوات مضت عندما قدّم محاضرته الافتتاحية لصف الوراثة الإنسانية في كلية الطب, حيث سأل حينها الصف قائلاً : ” كيف بإمكانكم افتعال مرضٍ جيني جديد في ولاية تكساس ؟ ” وبعد استماعه للأجوبة والتي اعتمدت تقريبا على افتعال طفرة وراثية, شبّة الدكتور براون إجابته المفضلة بالطريقة التالية وهو أن بإمكانه إنتاج مرض يتعلق بالوراثة فقط عن طريق تغيير الشفرة المتبعة في بناء المنازل بطريقة يجعل بها أبواب المنازل لا تزيد ارتفاعا عن ستة أقدام فقط ! وبهذه الطريقة سنحصل على ” متلازمة كدمات الجبهة ” المتلازمة التي ستكون مرتبطة بالجنس (حيث ستكون شائعة أكثر بين الذكور بسبب طول قامتهم الأكثر نسبياً والذي يجعل فرصة ارتطام جباههم بالأبواب قليلة الارتفاع وبالتالي سيكون تعرضهم للكدمات أكثر احتمالاً ) وهكذا سنحصل على عامل وراثي مُهيأٍ لتلك المتلازمة وهو العامل الذي يُنتج طول القامة !
بإجابته تلك ركّز الحائز على جائزة نوبل على جانب مهم من التظافر بين الجينات والعوامل البيئية, فالعوامل الوراثية التي تتطور في ظروف معينة لتكون مفيدة أو محايدة على الأقل قد تكون ضارة جداً في ظروف أخرى. فعلى سبيل المثال فإن الكثير من العوامل الوراثية المساهمة في عمليات الأيض (metabolic processes) كانت قد تطورت تحت ظروف كان من الصعب بها الحصول على الطاقة ولكن الآن , في بيئة الدول الغنية حيث من السهل الحصول على كل مصادر الطاقة, تسببت تلك العوامل الوراثية بالسمنة والتأثيرات الأخرى المضرة بالصحّة.
من بين أقدم وأكثر الطرق فعاليًة لدراسة مساهمة الجينات في تكوين الصفات المختلفة هي دراسة التوائم, ففي تلك الدراسات فُحِص متطوعين من توائم متطابقين (متشابهين على المستوى الوراثي) وتوائم غير متطابقين حيث دُرِس الأخوة التوائم لاحتمالية تشاركهم بصفات معينة, فالطول مثلا هو صفة مرتبطة بالوراثة بشكل كبير ومعظم التوائم المتماثلين يكون الاختلاف بين أطوالهم أقل من أنش واحد ولكن رغم ذلك فإن نسبة من أولئك التوائم اظهروا اختلافا كبيرا بالطول, الأمر الذي وجد أنه مرتبط بحصول وتوقيت ظهور أمراض الطفولة المبكرة, الأمراض التي تعتبر كأحداثٍ مصادفةٍ مرتبطةٍ بعوامل بيئية.
صفات أخرى أظهرت انسجاماً أقل في دراسات التوائم, فعلى سبيل المثال لو أن واحدًا من التوأمين المتطابقين أصيب بمرض التهاب المفاصل الروماتيزمي, من أمراض المناعة الذاتية, فإن احتمال إصابة التوأم الآخر بنفس المرض هي 15%, وهذا النسبة هي نسبة أعلى بكثير من تلك المتوقعة عند التوائم غير المتطابقين مما يشير إلى وجود عامل خطر وراثي مهم للإصابة بهذا المرض كمثال, وبالتأكيد تم التعرف على بعض تلك العوامل الوراثية, وعلى أية حال فإنه من الواضح أن هناك عوامل وراثية وعوامل مصادفة مهمة أيضا في هذا المضمار وإن كان من الصعب تحديدها بشكل دقيق في الوقت الحاضر.
إن الصفات وإن كانت محددة بشكل كبير بالعوامل الوراثية فإن توقعها فقط من معرفة تتابع النيوكليوتيدات في المادة الوراثية قد يكون تحديا صعباً إلى أقصى الحدود. فعلى سبيل المثال, في دراسةٍ حديثةٍ كبيرة فإن اختلافات في أكثر من 400 جين وجد بأنها مرتبطة مع اختلافات في طول القامة عند البالغين, 400 جين مجتمعة ولكنها مثلت ما هو أقل من النصف فقط من الملاحظ من اختلاف في الطول عند البالغين, النتيجة متواضعة نعم ولكنها يجب أن لا تكون مفاجئة عندما نأخذ بعين الاعتبار كل العوامل الأخرى المساهمة في صفة الطول من التفاعل بين خلية وأخرى لتعبيرات عوامل النمو والأحداث الأخرى التي تحصل من تخصيب البيضة لحين البلوغ.
بالإضافة إلى تسليط الضوء على البُنية الجينية فإن أدوات تحليلٍ وراثيٍ قوية يجب أن تستخدم لتمكيننا من التقدم بفهم التأثيرات الوراثية على صحتنا وعلى الصفات المهمة الأخرى.
إن الباحثين يجب عليهم أن يقسموا الأفراد في عينات بحوثهم طبقاً لبنيتهم الوراثية والاستدلال بعوامل الخطر الوراثية كمقدمة لدراسة العوامل الوراثية بالضبط كما تم عمله عند دراسة التوائم المتطابقة.
وبدون أدوات تستخدم لتقسيم كهذا فإن تأثيرات العوامل الوراثية ستتداخل مع تأثيرات العوامل البيئية بصورة تحجب الفهم الحقيقي لدور كل منها على حده.
هذا الموضوع له أهمية خاصة لأن قياسًا مضبوطًا ودقيقًا للعوامل البيئية كالطعام والمواد الأخرى في محيطنا و الإجهاد يعتبر أيضا تحديًا كبيرًا, وتقنيات جديدة كأجهزةٍ قابلة للارتداء مثلا لها القدرة على مراقبة العوامل الشخصية والعوامل التي نتعرض لها من البيئة قد يساعد في هذا الخصوص, ولكن الزمن فقط هو من يستطيع التحدث يقيناً بهذه الأمور.
ترجمة : د.علاء سالم
تدقيق : حسين احمد