هل تعني الطفرات الجينية أمرًا سيئًا دائمًا؟
يعتقد الجميع بأنّ الطفرات التي تطرأ على جيناتنا تسبّب المرض، لكن في الواقع لا يُحدِثُ كلُّ خللٍ يطرأ على جيناتنا شيئًا سيئًا، حتى أنّ بعض الأخطاء التي تطرأ على الجينات يمكن أن تُكبت، أو أن نتخلص منها نهائيًا.
لازالت المعلومات المتوافرة عن عملية “الكبت الجيني” قليلة، لكنّ هذا على وشك التغيّر بعد أن بدأ علماء جامعة تورونتو بوضع قواعد عامة عن الموضوع.
قامت فِرقٌ بقيادة كلٍّ من الأساتذة بريندا أندرو، وكارلوس بون، وفريدريك روث من قسم علم الوراثة الجزيئية ومركز دونيلي، بالتعاون مع الأستاذ تشاد مييرس من جامعة مدن مينيسوتا توين، بجمع أوّل مجموعةٍ شاملةٍ من الطفرات الكابِتة في الخلية، لتُنشر في موقع سينس في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر.
عمل الأساتذة الأربعة سويّة سابقًا، فقد كانوا أعضاءً في برنامج الشبكات الجينية الذي أجراه المعهد الكندي للأبحاث المتقدمة.
قد يُساعد ما وجدوه على تفسير كيف أنّ اشتراك الطفرات الكابِتة مع الطفرات المسببة للأمراض الوراثية يُقلّل من سير المرض، أو حتى يحمي من حدوثه بشكلٍ كامل.
لا يملك علماء الأحياء الكثير من الفضول لدراسة التسلسل الجيني لجينومات أشخاصٍ أسوياء، لكن بالرغم من ذلك اكتُشِف وجود القليل من الأشخاص المحظوظين جدًا الذين تحدث لديهم طفرات واضحة تسبب المرض وبالرغم من ذلك يبقون بصحةٍ جيدة، كالتليّف الكيسي وفقر دم فانكوني (وهو مرض وراثي نادر جدًا يسبب فشل نخاع العظم في تكوين خلايا الدم المختلفة)، فكيف يحدث ذلك؟
يقول روث وهو كبير الباحثين في معهد لونيفلد تانينبوم للأبحاث في منظومة سيناي للصحة: «في الواقع إننا لا نعلم لم تسبّب الطفراتُ المرضَ عند بعض الأشخاص، وغيرهم لا، قد يكون السبب في حدوث بعض ذلك هو تأثير البيئة، لكنّ الكثير من الحالات قد يكون تفسيرها هو وجود طفراتٍ أخرى تدعم تأثيرات الطفرة الأولى».
تخيل أن تعلق داخل غرفةٍ مُنظّمُ الحرارة فيها معطّل، والجو يصبح حارًا جدًا، وكي يصبح الجو أقلّ حرارةً، قد تفكّر في إصلاح المنظّم، أو فقط تقوم بكسر النافذة، حسنًا هكذا تعمل آلية الكبت الجيني بالحفاظ على صحة الخلية بالرغم من وجود الطفرات الضارة، وهي تفتح طرقًا جديدة لفهم أو حتى لعلاج الاضطرابات الجينية.
يقول الدكتور جولاندا فان ليون Jolanda van Leeuwen وهو باحث مابعد الدكتوراه في مختبر بون Boone وأحد العلماء الذين تزعّموا العمل: «إذا علمنا في أيّ الجينات تحدث هذه الطفرات المكبوتة، سنفهم كيف ترتبط بالجينات المّسببة للمرض، وهذا سيقودنا في المستقبل إلى تطوير أدوية لعلاج الكثير من الأمراض».
لكن إيجاد هذه الطفرات ليس بالأمر السهل، عند البشر يصبح الموضوع كمن يبحث عن إبرة في كومة قش.
بحسب النظرية، فطفرةٌ مكبوتةٌ قد تكون ناتجةً عن واحدٍ من مئات آلاف الأخطاء التي تحدث أثناء نسخ الحمض النووي المتوزّع على 20,000 جينةٍ بشرية، وبما أن كلّ جينوم بشري فريدٌ من نوعه، بالتالي فاختبار جميع هذه الجينات هو أمرٌ غير عملي أبدًا.
يقول فان ليون: «لم تُجرَ سابقًا دراسةٌ على مستوى عالمي كهذه، وبما أنّه من غير الممكن إجراء هذه التجارب على الإنسان، استخدمنا خميرةً كنموذجٍ حي، وبذلك نستطيع أن نعلم كيف تؤثر الطفرات على صحة الخلايا».
تُعدّ خلايا الخميرة نسخةً مبسطةً عن خلايانا باحتوائها على 6,000 جينة فقط، وحتى الآن لازالت نفس القواعد الجينية الأساسية تنطبق على كليهما، كما أنّه من السهل نسبيًا التأثير على أيّ جينٍ من خلايا الخميرة لدراسة أشدّ الحالات التي يمكن أن تسبّبها الطفرة لدى جينة توقفت عن أداء وظيفتها بشكل كامل.
عمل الفريق بأسلوبين مختلفين، فمن جهةٍ حلّلوا كلّ البيانات الموجودة سابقًا عن علاقات كبتية معروفة لدى جينات الخميرة، فبسبب وفرة المعلومات، ستنحرف حتمًا هذه النتائج باتجاه أكثر الجينات شعبية، وهي الجينات التي درسها العلماء مسبقًا بشكلٍ مفصّل.
مما دفع فان ليون وزملاءه لإجراء تحليلٍ آخر غير متحيز عبر قياس جودة نمو الخلايا عندما يسببون لها طفرات ضارة، أو بالجمع مع طفرة أخرى لجين مغاير؛ فالطفرات الضارة تبطئ من نمو الخلية، وأيّ تقدم في معدل النمو سيكون سببه طفرةً مكبوتةً في جين ثانٍ، هذه الدراسة بيّنت وجود مئات الطفرات الكابتة للطفرات الضارة المعروفة.
المهم هنا هو أنّه أيًا يكن الأسلوب المتبع، فقد أشارت البيانات إلى النتيجة نفسها، فلإيجاد الجينات الكابتة لا يجب علينا غالبًا النظر بعيدًا عن الجينات التي تحدث فيها الطفرات الضارة.
تميل هذه الجينات إلى امتلاكها قواعد متشابهة داخل الخلية، إما لأنّ المسؤول عن تشفير البروتينات المُنتَجة جيناتٌ تتوضع في المكان نفسه، أو لأن كليهما يعملان بنفس الطريقة الجزيئية.
يقول بون: «لقد اكتشفنا المبادئ الأساسية للكبت الجيني، وأظهرنا بأن الطفرات الضارة وما يكبتها موجودان بشكلٍ عام داخل الجينات التي ترتبط بها وظيفيًا.
بدلًا من البحث عن إبرةٍ بكومة قش، نستطيع الآن تضييق المجال الذي نركز عليه في بحثنا عن كوابت الاضطرابات الجينية عند البشر، فقد تقلصت منطقة البحث من 20,000 جين إلى المئات، أو حتى العشرات فقط، إنها خطوة كبيرة إلى الأمام».
ترجمة: ولاء سليمان
تدقيق: جعفر الجزيري
المصدر