مع الإزدياد الإيجابي في أعداد المُتعلّمات وخرّيجات الجامعات عبر العقود القليلة الماضية، قد يظنُّ البعض أنّ مشكلة التّمييز الجنسي في الأطر والدّوائر العلميّة والأكاديميّة قد انتهت وولّت منذ زمنٍ بعيد. ولكنّ المتابع للإحصاءات الرّسميّة سيرى أنّ ما زالت هنالك فجوة حقيقيّة بين أعداد ونسب الحاصلين على شهادات علميّة من الذّكور من جهة، وأعداد ونسب الحاصلات على شهادات علميّة من الإناث على الجهة الأخرى.
من المهمّ أنْ نذكّرَ متابعينا، قبل أن ننظر إلى آخر الدّراسات حول الموضوع، أنّ التسرّع في القفز من المُشاهدَة إلى الإستنتاج ليسَ من روح العلم، ولذلك علينا ابتداءً أن نسأل أنفسنا بموضوعيّة: ما هي الأسباب وراء هذه الفجوة؟ هل هنالك بالفعل تمييز وانحياز ضدّ النّساء في الدّوائر الأكاديميّة، أم أنّ هنالك تفسيرات أخرى لهذه الفجوة؟
عبر السّنين الماضيَة، حاولَ كثيرٌ من علماء الإجتماع والنّقّاد أن يُفسّروا الفجوَة بين أعداد الحاصلين على شهادات ومناصب علميّة مرموقة من الذّكور والإناث بطرح أحد هذهِ التّبريرات: (1) أنّ ميول النّساء واهتماماتهنّ مُختلفة عن ميول الرّجال. (2) أنّ خيارات النّساء بشأن أسلوب حياتهنّ قد تبعدهنّ عن المناصب والمراكز العلميّة الهامّة. (3) أن النّساء أقلّ قدرَةً وكفاءَةً على التّحصيل في مجال العلوم.
حتّى نتأكّد إذا ما كانت هذه الفجوة بالفعل تُعزى إلى التّمييز والإنحياز ضدّ النّساء أو، على الجهة الأخرى، ربّما لأيّ من التّبريرات الثّلاثة التي طرحها النّقّاد، علينا أن نصمّم تجربة مُحكمَة: حيث نبقي كلّ العوامل والمُؤثّرات التي قد تؤثّر على النّتيجة ثابتة أو متساوية، إلاّ العامل الذي نودُّ دراسته وفحصه.
وهذا هو بالضّبط ما حقّقته دراسة نُشرَت مؤخّرًا في المجلّة العلميّة (PNAS) في الولايات المتّحدة، حيث قامت مجموعة من الباحثين بدراسة إجابة أعضاء الهيئة التّدريسيّة في 6 من أكثر الجامعات الأمريكيّة انشغالاً بالبحث العلميّ على طلبات توظيف في المختبرات من قبل طلاّب وطالبات جامعيين. ومع أنّ قدرات الطلاّب والطّالبات على جميع الأصعدَة كانت مُتساوية، إلاّ أنّ أعضاء هيئة التّدريس (ذكورًا وإناثًا) أظهروا إنحيازًا واضحًا ضدّ الطّالبات. وكما ظهرَ لاحقًا، يعتقدُ أعضاء هيئة التّدريس في الغالب أنّ الطلاّب الذّكور أكثرَ كفاءَة من طالباتٍ بكفاءاتٍ مُماثلة تمامًا. من الجدير بالذّكر أيضًا أنّ الرّاتب السّنوي (بالمعدّل) الذي عُرضَ على الطلاّب الذّكور كانَ أعلى ممّا عُرضَ على الطّالبات.
هذه النّتيجة هامّة جدًّا لأنّها تُفنّد التّبريرات الثّلاثة التي تعرّضنا لها سابقًا، وتبيّنُ أنّنا لم نتحصّل بعدُ على مُساواة كاملة في الفرص التي تُمنح للذّكور والإناث في مجال العلم. المسألَة لا تتوقّف على مسألة ميول، قدرات، أو أسلوب حياة، إنّما على إنحيازات إجتماعيّة عميقة. وهذه الإنحيازات في العادَة تكون ضمنيّة في تعاملاتنا الإجتماعيّة، وقد لا يكون الشّخص الممارس لها واعيًا بحقيقتها. لقد علّق الباحثون على هذهِ المسألة بقولهم: “إذا أظهر أحد أعضاء الهيئة التّدريسيّة انحيازًا جنسيًّا، نحن لا نقترح أنّ هذه الإنحيازات مقصودة أو أنّها نتيجة لرغبة واعية بإعاقة تقدّم النّساء في العلم. دراساتٌ سابقة أظهرت أنّ تصرّفات النّاس تتأثّر بإنحيازات ضمنيّة أو غير مقصودة، نتيجَةً للتعرّض المُتكرّر لرؤى ثقافيّة مُنتشرة والتي بدورها تصوّر النّساء على أنّهنّ أقلّ مقدرَةً أو كفاءَة.”
لا بدّ أن نذكر، قبل أن نختم، أنّه ليس من الحكمة تعميم نتائج الأبحاث في علوم الإجتماع على جميع الثّقافات والحضارات، لأنّ للثّقافة الإجتماعيّة دورها الهامّ في تشكيل صورة المجتمع ومؤسّساتِه. ولكنّنا لا نستطيع أن ننفي أنّ الفجوة موجودة حتّى في مجتمعاتنا العربيّة، وأسبابها كثيرة ومُعقّدة. ولذلك نحن بحاجة إلى باحثين جادّين لدراسة الأسباب وتحليلها بصورة علميّة وموضوعيّة. أهميّة هذا الموضوع تفوق كُلّ التصوّرات، فكما قال الباحثون في مُلخّص الدّراسَة: “قلّة مُشاركة النّساء في المجالات العلميّة الأكاديميّة تعكسُ إهدارًا خطيرًا لفرص الإستفادة من قدرات أفضل علمائنا المُستقبليين، كانوا ذكورًا أو إناثًا.”
المصادر (لمزيد من القراءة):
http://blogs.scientificamerican.com/unofficial-prognosis/2012/09/23/study-shows-gender-bias-in-science-is-real-heres-why-it-matters/
http://www.pnas.org/content/early/2012/09/14/1211286109#aff-1
http://www.aauw.org/learn/research/upload/whysofew.pdf