في السنوات الأخيرة، عادت التعريفات الجمركية إلى دائرة الجدل السياسي في الولايات المتحدة، ما أثار التساؤلات حول مستقبل التجارة الحرة. حتى فترة قريبة، كان دعم التجارة الحرة مشتركًا بين الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، لكن في أثناء انتخابات 2024، تبنى المرشحان المتنافسان مواقف حماية تجارية غير مألوفة. أصبح الخطاب السياسي حول التعريفات الجمركية أقوى، ما يعيد إلى الأذهان السياسات الاقتصادية في بدايات تأسيس الولايات المتحدة.
الجذور التاريخية للنظام الاقتصادي الأمريكي:
في أواخر القرن الثامن عشر، وضع ألكسندر هاملتون، أحد الآباء المؤسسين، سياسات اقتصادية تهدف لتعزيز الصناعة الأمريكية، التي شكّلت أساس ما عُرف لاحقًا بـالنظام الأمريكي. اعتُمد هذا النظام بديلًا للتوجهات البريطانية نحو التجارة الحرة، وسرعان ما أصبح الركيزة الأساسية لتطور الاقتصاد الأمريكي الناشئ، إذ أسهم في دعم الصناعات الوطنية.
القومية الاقتصادية لهاملتون والتعريفات الجمركية:
لم يكن للولايات المتحدة سياسة تجارية واضحة في سنواتها الأولى. بعد الاستقلال في 1783، كانت البلاد تعمل بموجب مواد الاتحاد، وهو أول دستور للولايات المتحدة، الذي قيد صلاحيات الحكومة الفيدرالية بدرجة كبيرة، يشمل ذلك سلطتها على تنظيم التجارة الخارجية. مع تصاعد الأزمات الاقتصادية وزيادة الديون والتضخم، برزت الحاجة إلى سياسة اقتصادية جديدة تضمن الاستقلال الاقتصادي والتنمية.
مثّل إقرار دستور الولايات المتحدة عام 1789 نقطة تحول، إذ منح الحكومة الفيدرالية صلاحية تنظيم التجارة وفرض الضرائب وتعريفات الجمركية، ما مهد الطريق لتشكيل سياسة اقتصادية قوية.
الثورة الأمريكية الثانية:
مع تعزيز الصلاحيات الفيدرالية، أصبح تمرير قانون التعريفات الجمركية الوطني أحد المهام الأولى للكونغرس الجديد. اعتُمد هذا القانون في 1789، إذ استبدلت الحكومة الفيدرالية التعريفات الجمركية التي كانت تفرضها الولايات منفردةً برسوم وطنية. أُطلق على هذه التغييرات اسم الثورة الأمريكية الثانية، إذ جاءت لتعزز دور الدولة في الاقتصاد.
شملت هذه الرسوم السلع الأساسية مثل النسيج، بلغت نسبة التعريفات الجمركية على الواردات من الصين والهند 12.5%. عبرت هذه الخطوة عن رؤية اقتصادية جديدة، تتضمن تعزيز الابتكار وحماية الصناعات الوطنية. في تقريره الشهير (تقرير عن الصناعات)، دعا هاملتون إلى دعم التقدم التكنولوجي وتأسيس نظام براءات اختراع لحماية الاختراعات، لتشجيع الابتكار وتطوير الثروة الوطنية.
تصاعد الحماية الاقتصادية:
استمرت التعريفات الجمركية أداةً رئيسية للسياسات الاقتصادية خلال العقود التالية، إذ تحولت إلى وسيلة لحماية الصناعة الوطنية من المنافسة الخارجية، خاصةً البريطانية. في القرن التاسع عشر، برز هنري كلاي وحزب الويغ داعمَيْن رئيسيين لهذا التوجه، وأصبحت التعريفات الجمركية جزءًا مما سُمي النظام الأمريكي.
عام 1816، وصلت معدلات التعريفات الجمركية الوطنية إلى 20%، وارتفعت مجددًا إلى 50% عام 1828 استجابةً للأزمات الاقتصادية. قوبلت هذه السياسات بمعارضة شديدة من الطبقة الزراعية والمُلاك في الجنوب الأمريكي، الذين رأوا فيها تعزيزًا للهيمنة الشمالية وسيطرة الحكومة الفيدرالية.
انهيار النظام الأمريكي:
في الفترة بين 1861 و1933، كانت التعريفات الجمركية جزءًا ثابتًا من السياسة الاقتصادية الأمريكية، إذ تراوحت نسبتها بين 40% و50% على السلع القابلة للضرائب. مع ذلك، بدأت هذه السياسات تتلاشى في ثلاثينيات القرن الماضي مع تعمق الكساد الكبير.
بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الولايات المتحدة جذريًا من التعريفات الجمركية نحو التجارة الحرة. كانت التعريفات تُعد من بين الأسباب التي عمقت الكساد الكبير وساهمت في الأزمات الدولية خلال الثلاثينيات والأربعينيات. مع إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي في 1913، ظهرت أدوات اقتصادية جديدة مثل السياسة النقدية، وبدأت الحكومات تعتمد على الإنفاق التحفيزي وسيلةً لمعالجة الأزمات الاقتصادية، ما قلل الاعتماد على التعريفات الجمركية.
العودة إلى الحماية التجارية حديثًا:
عام 2024، عاد الحزب الجمهوري إلى الاعتماد على التعريفات الجمركية أداةً رئيسية في برنامجه الاقتصادي، في حين يركز الحزب الديمقراطي على مواجهة السلطة المفرطة للشركات الكبرى ودعم المؤسسات الصغيرة، ما يذكر بسياسات الحزبين في مراحل سابقة من التاريخ الأمريكي.
تظهر التعريفات الجمركية مجددًا عنصرًا رئيسيًا في النقاش السياسي الأمريكي، ومع انتصار الحزب الجمهوري، يبقى السؤال المطروح: هل ستسهم التعريفات الجمركية اليوم في تشكيل سياسة اقتصادية جديدة تعود بجذورها إلى النظام الأمريكي القديم، أم أنها مجرد استجابة مؤقتة للظروف الاقتصادية الحالية؟
اقرأ أيضًا:
هل ستصبح العملات الرقمية صديقة للبيئة؟
هل يمكن للمستثمرين الاستفادة من الركود الاقتصادي؟
ترجمة: دياب حوري
تدقيق: أكرم محيي الدين