يبدو أن اضطرابات الشخصية أصبحت حديث الجميع. مصطلحات تشخيصية مثل النرجسية والحدية والفصامية أصبحت فجأةً تُقال عشوائيًا مثل قصاصات الورق الملون المنثورة. يجد الكثير من الأشخاص هذا الأمر مربكًا ويتساءلون: كيف أميز شخصًا نرجسيًا؟ كيف يختلف النرجسيون عن الحديين أو الفصاميين؟
ربما أنت أيضًا الآن في حيرة. لحسن الحظ لقد طورت وسيلة بسيطة لمساعدة الأطباء النفسيين على تعلم كيفية تشخيص اضطرابات الشخصية ، إضافةً إلى كونها قابلةً لأن يستخدمها غير المختصين.
أسميها (الغشتالت الشخصي). وهي ليست كافيةً وحدها لإعطائك تشخيصًا متكاملًا، لكنها قد ترشدك إلى الطريق الصحيح.
الغشتالت الشخصي
(الغشتالت) مصطلح ألماني يعني ضرورة أخذ (الكل) بعين الاعتبار، لأن (الكل) له معنى أشمل (أو مختلف) عن الأجزاء المكونة له. الغشتالت الشخصي، أو (IG) اختصارًا، مبني على نظرية الغشتالت في علم النفس، التي تتضمن تكوين (شكل) و(أرضية).
يشير هذا أساسًا إلى أنه في أي لحظة قد توجد بيانات أكثر مما يستطيع عقلنا وحواسنا معالجته. وكي لا نشعر بالارتباك، نفضل تلقائيًا أنواعًا محددة من البيانات. نميل في اللقاءات الشخصية إلى ملاحظة الأشياء التي ترتبط برغباتنا الحالية ومخاوفنا، أو حاجاتنا الماضية غير المُشبَعة والصدمات، إذ تتجسد الصدمات الماضية في صورة مخاوف حالية.
ما نلاحظه يصبح الشكل المتمثل، وما نتجاهله يصبح جزءًا من الخلفية غير المرئية. تسمح لنا هذه العملية التي تدور في اللاوعي بتشكيل صورة مترابطة للأفراد الآخرين بناءً على مجموعة من التفاصيل.
ما علاقة ذلك بتشخيص اضطرابات الشخصية ؟
نستطيع تمييز أي من اضطرابات الشخصية الرئيسية الثلاثة التي قد يكون الشخص مصابًا بها من طريق التركيز على ما يجعله الشخص نصب اهتمامه، أو ما يتجاهله تكرارًا خلال اللقاءات الشخصية.
• الغشتالت الشخصي للشخصية الحدية:
يميل من يعانون الاضطرابات الحدية إلى ملاحظة البيانات الشخصية التي ترتبط بحاجاتهم غير المشبعة إلى الحب أو الرعاية أو إعادة التربية، أو مخاوفهم من الهجر أو الانشغال أو تجاهل الطرف الآخر لاحتياجاتهم العاطفية.
• الغشتالت الشخصي للشخصية النرجسية:
يميل النرجسيون إلى ملاحظة البيانات الشخصية المتعلقة بإثبات الذات والثقة بالنفس والحالة الاجتماعية، أو احتمال أن يظهروا عديمي القيمة أو أن يُحرَجوا علنًا.
• الغشتالت الشخصي للشخصية الفصامية:
يميل من يعانون المشاكل الفصامية إلى ملاحظة البيانات الشخصية المتعلقة برغبتهم في الأمان الشخصي والاستقلال الذاتي، أو ما يحفز مخاوفهم من التطفل والتحكم فيهم أو فقدان قدرتهم على التواصل.
وفقًا لما سبق، نستطيع تحديد الاختلافات بين اضطرابات الشخصية الثلاثة من طريق تحديد رغباتهم ومخاوفهم الدفينة. بإمكاننا ملاحظة هذه الأولويات المختلفة خلال اللقاءات الشخصية.
دعونا نلقي نظرة على الطريقة التي ستجري بها آلية التشخيص هذه خلال الجلسة الأولى، بناءً على الأمور التي سيمثلها 3 عملاء لمكتبي. هذه مقتطفات مختصرة من جلسات حقيقية مع العملاء:
مثال إيما (مُقَيِّمة الحالة)
تأتي عميلتي الجديدة إيما في جلستها الأولى. إنها امرأة أنيقة ترتدي ثيابًا تلائمها تمامًا. تنظر حولها إلى الغرفة لتتمعنها وتقيمها. تجلس مقابل الحائط الذي علقت عليه شهادات الدبلوم. قائلةً إنه مثير للإعجاب. ثم تلتفت لتنظر إلى المكتبة، تتساءل: كم كتابًا منهم قرأت حقًا؟ أقول: «نحو الثلث. أستخدمهم بوصفهم مراجع حسب الحاجة».
تهز إيما رأسها تعبيرًا عن الاستحسان. ثم تسأل: «مكتب جميل جدًا. هل هو ملكك أم مؤجر؟».
يبدو أنها تريد تقييمي بناءً على وضعي المالي. فامتلاكي المكتب يجعلني أعلى مكانةً مما لو كنت مجرد مستأجر. عندما أخبرها أنني أمتلك المبنى بالكامل، تستكين إيما ونبدأ الجلسة.
أشعر أنني مررت بسلسلة من الاختبارات عن ذكائي، وشهاداتي، وثروتي ومكانتي.
إذن ما الذي تمثل لإيما؟
هذا المقتطف الموجز قصير جدًا لإعطائها تشخيصًا نهائيًا، لكننا نستطيع استخراج معلومات مهمة عن الأشياء التي وجدتها مثيرةً للاهتمام وعلقت عليها. لما كانت إيما ترتدي ثيابًا ثمينة، ولاحظت الأشياء التي تدل على مهنتي، وقدراتي العقلية، وحالتي الشخصية والاجتماعية، مثل شهادات الدبلوم، والكتب، وكوني أملك المكتب أم أستأجره، نستطيع تلخيص اهتماماتها بأنها تتمحور أساسًا حول مكانتي وقدرتها على احترامي. وتلك هي اهتمامات النرجسيين عادةً.
مثال (بن والجلوس)
يدق عميلي الجديد بن الجرس في الموعد تمامًا. يدخل ويسأل: «أين يجب أن أجلس؟» أخبره إنني سأجلس هنا وأن بإمكانه الجلوس في أي مكان يعجبه. فيجلس على الكرسي الأقرب إلى الباب عن يميني.
يبدو عليه التوتر. أسأله: «ما الذي دفعك للمجيء اليوم؟».
يتردد ثم يقول: «أنا غير مرتاح البتة في عملي. غيروا مكتبي وأنا الآن أجلس في مكان مفتوح. لا أمتلك خصوصيةً ولا سيطرةً على فسحتي. يستطيع أي أحد أن يأتي إلي ويبدأ بالحديث في أي لحظة يرغب. هذا هو كابوسي الأسوأ».
بناءً على توتره وما أخبرني به، أسأل بن: «كيف تشعر هنا حيال مكان جلوسك بالنسبة إلي؟ هل أنت جالس حيث تريد؟ هل يوجد مكان في هذه الغرفة قد يكون أكثر راحةً لك؟»
يتردد بن ثم يقول أخيرًا: «شكرًا على سؤالك. أنا لست متأكدًا حيال إجابتي. لم يسألني أحد قط عن تفضيلاتي حول مكان جلوسي أو تحقق من أنني بخير! أعتقد أنه يعجبني أنك جلست أولًا. أحب أن أعرف أين يجلس الآخرون، أن تكون الأمور متوقعة. يعجبني أيضًا أنك منحتني الخيار. اخترت المقعد عن يمينك لأنه كان الأقرب إلى الباب. (يضحك بعصبية). بهذا أستطيع أن أركض من هنا مسرعًا إذا أردت المغادرة».
إذن ما الذي تمثل لبن؟
يركز بن على المشاكل المتعلقة بالخصوصية، وضوابط التطفل، والمساحة الجسدية، وإمكانية الهروب من موقف شخصي. هذه كلها تندرج ضمن اهتمامات الفصاميين.
مثال (سوزي والأريكة)
أتت سوزي متأخرةً 10 دقائق. اعتذرت بشدة. أكدت لها أنني لست منزعجًا. دعوتها لتجلس فاتجهت إلى الأريكة الوثيرة. سألتني إن كان لدي مانع أن تخلع حذائيها. عندما أجبت أن لا مانع اتكأت على الوسادة رافعةً قدميها على الأريكة.
قالت سوزي: «إنه مكتب جميل حقًا. إنه دافئ ومرحب. البطانية تذكرني نوعًا ما بجدتي. أحببتها كثيرًا. عندما كنت طفلةً، أحببت زيارتها. كانت شخصية ساحرة. كان منزلها مليئًا بكل الأشياء التي يجمعها البالغون، لكنها كانت تدعني ألعب بأي شيء أحبه. وكان لديها دائمًا أطعمتي المفضلة. أنت تذكرني بها. أنت لطيف جدًا، وأشعر بالارتياح معك بالفعل».
إذن ما الذي تمثل لسوزي؟
أرادتني سوزي أن أُعجَب بها وسرعان ما ارتبطت بي. منحتني صفات دافئة ومحببة. احتاجت إلى أن أُطمئنها كثيرًا، ومالت إلى ملاحظة الأشياء التي تشير إلى الدفء الشخصي، مثل أريكتي، وابتسامتي، وشبهي بشخص أحبها حبًا غير مشروط.
استخدام الغشتالت الشخصي لبدء التشخيص:
لا أملك ظاهريًا معلومات كافية للتشخيص. لكن بالتركيز على ما تمثل (وما لم يتمثل) لإيما وبن وسوزي خلال لقائنا الأول، يتضح أن لكل منهم مشاكل متباينة، ومن ثم تشخيص مختلف غالبًا.
إيما وتقييم الحالة
يشير تركيز إيما على جوانب الغرفة المتعلقة بالحالة وتقييمها لي إلى كونها نرجسية غالبًا، إذا اتضح لاحقًا أنها تعاني اضطرابًا في الشخصية.
بن والمسافة الشخصية
أوضح بن أنه لا يشعر بالأمان عندما يفقد السيطرة على قدرة الأشخاص على الوصول إليه جسديًا. وهذا هاجس مشترك لدى جميع الفصاميين.
سوزي وجدتها
على عكس بن، لا تمتلك سوزي مخاوف بشأن القرب، وبدا أنها غير مكترثة بمؤشرات الحالة التي شغلت إيما. ركزت سوزي على الأشياء التي توحي بالدفء والحب والراحة. ذكرتها بجدتها المحبة، وذكرتني هي بحفيدتي ذات الأربعة أعوام التي تحب أيضًا أن تتكور على أريكتي دون حذائها.
الخلاصة
يعطينا الغشتالت الشخصي طريقةً بسيطةً للتعرف على المشاكل الحدية، والنرجسية، والفصامية والتمييز بينها. كل ما علينا فعله هو التركيز بدقة على البيانات الشخصية التي يجدها الشخص المعني ذات أهمية. إذا كانت تشمل الحالة والإنجازات أوليًا، فمن المحتمل أن يمتلك الشخص مشكلات نرجسية. إذا تضمنت البيانات الأمن الشخصي والاستقلال والتفرد، قد يمتلك الفرد مشكلات فصامية. وإذا لاحظ الفرد علامات الدفء والقبول والحب أولًا، قد تكون المشاكل الحدية محتملة.
اقرأ أيضًا:
النظرة الفرويدية تجاه اضطراب الشخصية الفصامية
ترجمة: ربا كيال
تدقيق: رزوق النجار
مراجعة: أكرم محيي الدين