يناقش كثيرون ممن لم يسبق اطلاعهم على ضحايا الحروب ومعدلات النمو السكاني بأن الحروب في منطقة الشرق الأوسط مثل حرب العراق وتبعاتها أو الحرب الأهلية السورية هي وسيلة للإبادة الجماعية. فهل كان للحروب هذا الأثر في العصر الحديث؟ هل يمكن أن تكون الحرب الحديثة سببًا في انقراض شعب أو تقليل عدد سكانه إلى حد كبير؟
في الواقع لا تؤدي الحروب الحديثة إلى تغيير سكاني طويل الأمد، وأغلب الحروب الحديثة سرعان ما اندملت آثارها على التعداد السكاني بعد مرور 10 سنوات أو أقل من انتهاء الحرب، عدا الشعوب التي تعاني أصلا من انحسار في معدل النمو السكاني يسبق الحرب نفسها.
لم نناقش في المقال التغيرات الديموغرافية التي تحدث بسبب الحرب مثل انحسار الأرمن من مناطق واسعة كانوا يقطنونها في تركيا بعد تعرضهم للمجازر أو التغيرات الديموغرافية في بعض المدن العراقية بعد العنف الطائفي في البلاد. لكن نناقش تأثير الحروب الكبيرة على التعداد السكاني والنمو السكاني.
علاقة الحروب بالنمو السكاني: هل تتسبب الحروب بالإبادة حقاً؟
تذكر الروايات القديمة أن نهر دجلة اصطبغ بالدماء إثر غزو هولاكو، وأن حمص حُرثت، وكذلك اصفهان في غزوة تيمورلنك. كما يتحدث كثيرون دون أن يعرفوا أي شيء عن واقع الهنود أن الهنود الحمر قد أبيدوا. ونسمع أيضًا أن هناك لغات تتعرض للانقراض والزوال، فهل تنقرض الشعوب بسبب الحروب؟
وبعد كل هذا التقدم في صناعة الأسلحة ووجود الأسلحة النووية هل يمكن أن يقود ذلك إلى انقراض شعوب معينة؟ أو إلى تناقص سكانها أو معدل نمو سكانها مما يقود بشكل غير مباشر إلى انقراضها. قد يرى البعض من السذاجة مناقشة هذا الأمر بمقال إحصائي، لكن نرى أيضًا كثيرًا ممن يعتقدون أن الحروب تؤدي إلى إبادة السكان، فما مدى حدوث ذلك؟
نقرأ في التاريخ عن ما يُعرف بالعرب البائدة، وهو كلام يتراوح بين الأسطورة والحقيقة. إذ تحاك الأساطير حول المنازل المهجورة أو القرى المتروكة في ذلك العهد. لكن في العصر الحديث شهدنا اقتراب شعوب عديدة من الزوال أو الانقراض. سكان تسمانيا الأصليون هم مجموعة بشرية منقرضة مات آخر شخص منهم عام 1876 لأسباب تتعلق بالغذاء والأمراض المنتقلة من الاختلاط بالأوربيين والواقع الاجتماعي للتسمانيين الأصليين أنفسهم.
غير التسمانيين شعوب أخرى من شعوب الجزر جميعها لم تكن في حالة صحية تقارن بأحد شعوب اليوم، من حيث التعداد والقدرة على استغلال الموارد، ومعظمها لم تنقرض بسبب الحروب. أما الانقراض الثقافي فيحدث بسبب انحسار استخدام اللغة نفسها وتشتتها وليس بسبب مقتل ناطقي اللغة.
تصنف الحروب وفقًا للبحث الذي أجراه برادلي ثاير المختص بالتطور والنزاعات إلى حروب القوى العظمى (Great power wars) وحروب القوى الصغيرة (Small power wars) والحروب الأهلية والإرهاب، ويرى برادلي بحسب دراسته فرقًا كبيرًا في تأثير كل من هذه الحروب على التعداد السكاني.
حرب القوى العظمى لم يعد لها تأثير قابل للدراسة بعد ظهور القوى النووية، ولم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، لذا فإن تأثيرها في الدراسات ليس مهمًا ولم تعد ذات أهمية مثال على حرب القوى العظمى هو الحرب العالمية الثانية، اما حرب القوى الصغيرة فمنها الحرب العراقية الإيرانية، أما الحرب الأهلية فهي مثل الحرب اليوغسلافية أو المجازر في رواندا، وأخيرًا الإرهاب فهو مثل الاعمال الإرهابية في أفغانستان وباكستان والعراق، عدا ما تطور فيما بعد ليصبح بمثابة الحرب.
البيانات والأمثلة: علاقة الحرب مع النمو السكاني
الحرب العالمية الأولى سببت انهيارًا كبيرًا في تعداد سكان ألمانيا من 79 مليون نسمة في عام 1939 وهو عام بدء الحرب العالمية الثانية إلى 68 مليون نسمة بعد 5 سنوات من الحرب العالمية الثانية تحديدًا عام 1950 للألمانيتين الشرقية والغربية. هذا التأثير لم يقتصر على تعداد السكان بل على الكثافة السكانية التي انخفضت أيضًا، وإلى حد كبير على نسب الفئات العمرية للجنسين. إذ حدث انهيار كبير في الفئة العمرية الواقعة في منتصف العشرينات حتى الثلاثين بعد أن كانت إحدى أكثر الفئات في الشعب الألماني لتصبح الفئة الأقل لكونها الفئة الأكثر اشتراكًا في الحرب.
أما كمثال للحرب من النمط الثاني وهي حرب القوى الصغيرة، فالحرب العراقية الإيرانية فيكمن ملاحظة أن العراق ازداد بوضوح من 13.6 مليون نسمة إلى 16.6 مليون نسمة في حرب كانت وفياتها تتراوح بين 250 ألف و 500 ألف من العراقيين. أما إيران التي خسرت ما يقارب المليون نسمة في الحرب فلم تتأثر هي الأخرى في تعداد سكانها من 38.6 مليون إلى 53 مليون نسمة، وهو ازدياد مفرط كان نتيجة لسياسة حكومية مضادة لوسائل منع الإنجاب.
أما النمو السكاني للعراق، فقد كان ينخفض بمعدل معقول وسرعان ما عاود الصعود بعد انتهاء الحرب وحتى في سنوات الحصار، بينما كان الأمر في إيران نوعًا من التدخل الحكومي الملزم للزيادة، مما سبب زيادة غير معقولة في تاريخ إيران، بتضاعف عدد السكان خلال 20 سنة منذ سنة 1968 حتى عام 1988. أثناء الحرب كان النمو السكاني في إيران التي لها حصة الأسد من قتلى الحرب. هل للحرب العراقية الإيرانية تأثير على التعداد السكاني؟ إطلاقًا كلا.
نبقى في العراق بواقعه المليء بالإرهاب، هل أثر الإرهاب والتفجيرات والهجرة على تعداد العراق؟ ازداد سكان العراق بـ 10 ملايين نسمة منذ عام 2003 حتى عام 2015، وذلك من 25 مليون إلى 35 مليون. بينما يبقى معدل النمو السكاني هو أحد أكبر المعدلات عالميًا وهو 3.01%. إذًا كم عدد القتلى؟ بحسب إحصائية موقع (Iraqi body count) فعدد القتلى يتراوح بين 158.543 – 177.199 قتيلاً منذ عام 2003 من المدنيين، أما المجموع الكلي مع العسكريين فيبلغ www.iraqbodycount.org .
وهو أقل بعشرات الأضعاف من مقدار الزيادة السكانية العراقية. ماذا عن الهجرة؟ في البداية يجب أن نعرف أن العراقيين لا يشكلون سوى 9% من مجموع من هاجروا لأوروبا في الموجة الاخيرة وهي موجة 2015-2016 وكانت الأقوى في تاريخ الاتحاد الأوربي كان مجموع ما تم تقديمه للاتحاد الاوربي من جميع المهاجرين هو 292540 طلب لجوء كليًا في عام 2015 العام الأكثر كثافة. هل يمكن أن نعتبر ذلك مؤثرًا على تعداد سكان العراق؟ حتى لو افترضنا أن هو مليون نسمة ممن هاجروا بعد 2003 فهو لا يتساوى مع معدل النمو السكاني العراقي ولا لمعشار صغير منه.
ماذا عن الحرب اليوغوسلافية الأهلية أو الجزء الفرعي منها، المعروف بحرب الاستقلال الكرواتية؟ يُلاحظ في هذه الحرب التي تُصنف ضمن الحروب الأهلية أو حروب القوى الصغيرة أمرًا غريبًا وهو انخفاض نسبة النمو السكاني قبل وبعد الحرب، والتي بلغت أقصاها في كرواتيا (-5.8) في أول سنين الحرب 1991، وكذلك الحال مع البوسنة (-3.79). لكن لا يمكن عزو انخفاض النمو السكاني العام وليس الانحدار الشديد أثناء فترة الحرب في أي بلد من المنطقة للحرب بعينها، لاسيما وأن معظم بلدان أوروبا الشرقية تعاني من هذه الظاهرة، وبدأت بلدان أوروبا الغربية أيضًا بالانضمام لها في انخفاض النمو السكاني وتحوله إلى النسبة السالبة.
صورة التوابيت البوسنية شهيرة جدًا للدلالة على مأساة المجزرة
مجازر رواندا ذات التعداد القليل يجدر بها أن تكون ذات تأثير، لاسيما وأن تعداد البلد صغير نسبيًا وأن المجزرة طالت مليون نسمة منهم. لكن ذلك لم يحدث هذا، فالتعداد السكاني والنمو السكاني عادا للتعافي مرة ثانية. الحرب الرواندية أثرت على النمو السكاني كثيرًا رغم أن حصيلتها كانت بالآلاف فقط، غير أن تأثيرها على التعداد كان خلال 100 يوم فقط من المجازر التي قتلت مليون إنسان، وكان ذلك في نهاية الحرب وفي فترة بدأ فيها النمو السكاني بالتصاعد نوعًا ما.
الحرب السورية التي ما زالت مستمرة هي مثار جدل، ومعالمها غير واضحة حتى الآن وإن كانت قد شُملت بالجدول، ولا تبدو أرقام النمو السكاني المقدمة من النظام السوري للبنك الدولي أرقامًا حقيقية، لكن بآخر رقم موجود لدى البنك الدولي عام 2014 كان التعداد يتضمن زيادة عن رقم 2011.
الاستنتاج
1. تؤدي الحروب الأهلية إلى انخفاض في معدل النمو السكاني.
2. لا تؤثر الحروب على التعداد السكاني تأثيرًا طويل الأمد يؤدي إلى انخفاض أزلي في تعداد شعب معين لما بعد الحرب عما قبلها.
3. تُحدث حروب القوى العظمى انخفاضًا في التعداد السكاني قابل للتدارك في السنوات اللاحقة.
البيانات
المصدر الأول
المصدر الثاني
المصدر الثالث
المصدر الرابع
المصدر الخامس
المصدر السادس
إعداد: عمر سيروان
تدقيق: دانة أبو فرحة