في السنوات الأخيرة، لاحت التغيرات المناخية في أُفق الكون كشبح مظلم ترك أثره في كلّ شيء بدءًا بالمساهمة في تحسين جودة مستوى الأحياء الفقيرة في ميامي وصولًا إلى ارتحال الغواتيماليين بحثًا عن ملجأ يقيهم خطر الجفاف ونقص المحاصيل. لكنَّ المشكلة قد بلغت ذروتها سنة 2018 عندما أفادت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية التابعة للأمم المتحدة (IPCC) بأننا سنحتاج إلى تغييرات سريعة وبعيدة المدى وغير مسبوقة تمس جميع جوانب المجتمع من أجل تخفيض مستويات ثاني أكسيد الكربون بحلول سنة 2030 ومنع الاحتباس الحراري العالمي الكارثي. وبالفعل فقد اقترح العلماء اتخاذ تدابير صارمة -ليست على النحو الذي تتصوره- إذ تقترح اللجنة الدولية للتغيرات المناخية التابعة للأمم المُتَّحدة في نفس التقرير أنّه بالإمكان الحد من الاحتباس الحراري وتقليصه إلى درجة ونصف مئوية بحلول سنة 2050 بواسطة إضافة 2.5 مليار فدَّانا من الغابات إلى العالم.
بعبارة أخرى، يتطلّب التصدي للاحتباس الحراري غراسة أشجار جديدة.. الكثير منها.. والآن نستطيع القول بأن للأمم المتحدة تمتلك البيانات اللّازمة لدعم اقتراحها.
الأشجار تعيد تخزين الكربون
ورد في دراسة نُشرت في 5 يوليو/تموز 2019 في مجلَّة العلوم أن مجموعة من باحثي مختبر كروثر السويسريي وجدوا أنّ أكثر الحلول فعالية في تغيير المناخ حاليًا تتمثَّل في إعادة بث الحياة والتناغم لما يعادل 223 مليون فدان من الغطاء التاجي، وهي مساحة تناهز مساحة الولايات المتحدة تقريبًا.
بإمكان هذه الأشجار تجديد 205 مليار طن من الكربون، أو ما يعادل ثلثي الكربون المنبعث نتيجة النشاط البشري منذ الثورة الصناعية وفقًا لإحدى الأخبار الصحفية. على الرغم من أن بعض التقارير الإخبارية قد حددت هذا القدر الكبير من الغابات المرمَّمة بما يعادل تريليون شجرة فإن هذه الإحصائية ترتبط في الواقع بتقدير مأخوذ من دراسة تقديريّة قديمة ترجع إلى سنة 2015.
دحض جان فرانسوا باستين، مؤلف دراسة مختبر كروثر، تقديرهم هذا برسالة بريدية إلكترونية تفيد بأنّ الهدف من البحث يتمثَّل في تقدير حجم الغطاء الشجري الذي قد يتكون فور إزالة «العامل البشري». بعبارة أخرى، أيّ نوع من الغابات تحديدًا سيتكون في ظل غياب أشكال التنمية الأخرى وأي موقع ستتخذ.
استخدم باستين وفريقه نوعًا من أنواع الذكاء الاصطناعي يعرف باسم «التعلم الآلي» بغاية بناء نموذج يربط الغطاء الشجري بالمناخ استنادًا إلى عمليات رصد الغطاء الشجري في المناطق المحمية البالغ عددها 78 ألف عملية.
بعد ذلك عرض الباحثون البيانات التي جمعوها لتقدير المجموع الكلي للغطاء الشجري المحتمل للكوكب. ومن ثمّ استبعدوا منه عدد الأراضي التي تُستخدم حاليا في المستوطنات الحضرية والأراضي الزراعية والغابات الموجودة، ما تركنا أمام حصيلة الأراضي المتاحة للاستصلاح. وتتضمن الدراسة خريطة تبين مدى التغطية الشجرية التي يمكن لمختلف أجزاء العالم تأمينها؛ وتشمل المناطق الثلاث الأولى روسيا وكندا والولايات المتحدة.
تظافر الجهود العالمية لإعادة التشجير
يعد توقيت طرح الدراسة من أكثر الأوقات مثاليةً لتوافقها مع الجهود العالمية المبذولة حاليا للإصلاح البيئي. ومن الأمثلة الدّالة على الملائمة الزمنية للدراسة نذكر مشروع «التريليون شجرة» المتمثل في السعي إلى استعادة تريليون شجرة بحلول 2050. وهناك مشروع آخر يتمثل في «تحدي بون». وهو عبارة عن شراكة بين حكومة ألمانيا والاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة التابع للأمم المتحدة التي تهدف إلى ترميم 371 مليون فدان من المناظر الطبيعية المتدهورة والمزالة لتبلغ 864 مليون فدان بحلول عام 2030.
قد تعتقد لوهلة أنّ ذلك يبدو سهلًا جدًا وتقول: «دعونا جميعا نشّمر عن سواعدنا وننقذ الكوكب بزرع شجرة واحدة في وقت واحد» أليس ذلك صحيح؟ يقول بعض الخبراء في هذا السياق أن الوضع في الواقع أكثر تعقيدًا بقليل من تلك الصورة الوردية. خصوصًا إذا كانت معظم الدول لا تنوي المشاركة في إنقاذ الوضع.
يقول جيم هاليت -رئيس مجلس إدارة جمعية الإصلاح الإيكولوجي- في هذا الصدد: «إن ترميم الغابات على النطاق الذي تناقشه هذه الورقة ليس بالسهولة التي يبدو عليها، لكن ورغم ذلك فقد بلغتنا التزامات بإيداع أكثر من 420 مليون فدان من قبل 58 دولة مع حلول سنة 2018، وهو ما يتجاوز هدف تحدي بون. وتشير التقديرات الحالية إلى أن حوالي 29% من الأراضي المودعة خاضعة للاستصلاح حاليًا، لكن يبقى معظم هذا العمل منجزًا من طرف بعض البلدان فقط».
منذ مطلع سنة 2021، تجاوز «تحدي بون» هدفه المتمثل في ترميم 371 مليون فدان، وتعهد أكثر من 60 دولة بترميم 518 مليون فدان من الأراضي مقطوعة الغابات.
يشير جيم هاليت إلى مختلف التحديات الرئيسية التي تواجه مشروع الترميم على هذا النطاق العالمي، مثل: التمويل والإدارة وحيازة الأراضي وملكيتها والقدرة على إنجاز العمل. ويشير هاليت إلى أن هناك أدلة كثيرة تنذر بفشل المشروع في بعض محطاته إذا لم تتقاسم منافع الإصلاح بالتساوي. لذلك يجب تطوير برامج التحفيز بعناية.
وعلى الرغم من أن هاليت يوافق على أهمية ترميم الغابات في معالجة تغير المناخ، من المرجَّح ألا يكون هذا الإصلاح وحده كافيًا؛ إذ سيأخذ كل من إنجاز مشاريع الترميم الكبيرة وقتا طويلا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى المدّة التي تستغرقها عملية تخزين هذه الأشجار للكربون. ويؤكد هاليت على أنه لا ينبغي استخدام إمكانية ترميم الغابات في المستقبل باعتبارها ذريعة لإتلاف الأراضي السليمة.
هل ستنجح فكرة زراعة الأشجار حقًا؟
لا يشكك علماء آخرون في الطابع العملي لإدعاءات الدراسة فحسب، بل طالت ريبتهم منهجية الدراسة ذاتها.
يقول إيكي لويديلينغ الباحث في مجال تغير المناخ وأستاذ علوم البستنة في جامعة بون: «من الجلي أن العديد من مناطق الترميم المزعوم توفرها غير ملائمة لعدد أشجار أكبر مما تحمله حاليًا. وإذا نظرتم من كثب إلى الخريطة، فإن نسبة كبيرة من هذه المناطق تقع في أماكن تتجمد فيها التربة بنحو دائم».
ويسترسل لوديلينغ قائلا: «إن المنهجية ضمنيًا -ربما عن غير قصد- ترمي إلى أن مخزون الكربون يتناسب مع الغطاء التاجي، بعبارة أخرى يعتبر هذا التوجه أنّ الأنظمة البيئية المفتقرة للأشجار لا تحتوي على أي كربون. ومن الواضح أن هذا زائف ويضخم بشدة التقدير العالمي للترميم».
كما يقاسم جان بورنر -أستاذ اقتصاد الاستخدام المستدام للأراضي في جامعة بون- الشك بنفس درجة زميله لوديلينغ ويقول أن بعض المناطق المقترح ترميمها في إطار الدراسة الحالية تُستخدم بالفعل لأغراض أخرى. ويعتبر الدراسة «ممارسة أكاديمية مثيرة للاهتمام»… ولكن باعتبارها مقترحًا لتغيير المناخ واستراتيجية تخفيف كما يُروج عنها، فذلك يرسل إشارة مضللة إلى المناقشة الدولية المتعلقة بالسياسة المناخ.
لكن لا تجزع بعد. يؤكد كل من باستين وهاليت على أن الأمم المتحدة قد أعلنت في الفترة الممتدّة من عام 2021 إلى عام 2030 «عقد إصلاح النظام الإيكولوجي»، الذي قد يحفز الدول للتحرك بسرعة، خاصةً وأن بعض البلدان قد بدأت بالفعل العمل على هذه المبادرة. وطبقاً لما ذكره هاليت، فإن ترميم الغابات يحظى بمزايا كثيرة تتجاوز مجرد التأثير على تغير المناخ لتبلغ الحفاظ على التنوع البيولوجي أيضا -أو حتى زيادته- والإبقاء على النظام البيئي الذي نعتمد عليه نحن البشر في غذائنا ومياهنا.
يعترف مؤلفو الدراسة بأن الأمر سيتطلب الكثير من النوايا الحسنة ليتحول هذا الحلم الكبير إلى حقيقة ملموسة.
ويقول باستيان: «ما نحتاج إليه هو العمل العالمي: الوكالات الدولية والمنظمات غير الحكومية والحكومات وجميع المواطنين، يمكن لأي شخص أن يشارك في هذا العمل من موقعه، وقد تكون المجتمعات المحلية والمنظمات الصغيرة فعالة بصورة خاصة، بالرغم من أنها لا تتمتع بنفس قدرة تغطية الوكالات الوطنية، لكنها تتمكن حتمًا من معرفة أفضل ما يمكن فعله في مجالهم».
هذه القصة «جزء من تغطية المناخ الآن»، وهو تعاون عالمي لأكثر من 250 منفذ إخباري لتعزيز تغطية قصة المناخ.
اقرأ أيضًا:
المفاهيم الخمسة الخاطئة الأكثر شيوعًا حول التغيرات المناخية
ترجمة: فاطمة البجاوي
تدقيق: حنين سلَّام