تبدو عبارة «اغفر وانسَ» علاجًا فوريًا سهل المنال، فهما فِعلا أمرٍ سهلا التحقيق، يدلان على التردد، ويثيران في النفس بديلًا نصف مريح للحلول العملية، إنهما بسيطان لكن لمراميهما نفحات بوذية زائفة.
لكن أصداء هذه الجملة لمن سبقت إصابتهم بصدمة نفسية تحمل نتائج عكسية في بعض الأحيان، وإليكم الأسباب:
- هذا اقتراح يُلغي مشاعر الآخر أو يدحض دواعي الشعور بالسوء. نحن لا نتناول هنا الغفران والتسامح مع الأشقياء الذين يبتكرون مقالب لنقع ضحيتها؛ بل نتكلم عن تلك المواقف التي يضعنا فيها البعض عنوةً بينما يغيب عن ضمائرهم إحساس الذنب، الذين تؤدي أفعالهم إلى تزايد حالة القلق والحزن والحاجة إلى التفريغ والترويح عن النفس عبر إدمان الممارسات والعقاقير، أو ممن تدفعنا أفعالهم إلى التفكير بالانتحار، وغيرها من المشاعر السلبية أو السلوكيات الخطيرة التي قد تنتاب الضحايا أو يتصف بها من يفكر بالعفو والنسيان. أنت تصبح شريكًا في ظلمهم إذا قلت لهم أن يعفوا ويغفروا.
- الأمر يتجاوز حد المعقول. لا تستطيع العقول البشرية أن تنسى طواعيةً، فقد نتجاهل أو نتناسى بعض الذكريات التعيسة، لكن من الصعب محوها، لذلك تعد نصيحة أحدهم بالنسيان طلبًا مستحيل التحقيق. وغياب القدرة على النسيان قد يدفع الذين يعانون تدني ثقتهم بأنفسهم إلى الشعور بالضغينة تجاه أنفسهم ولومها لعدم تمكنهم من التناسي، وهو أمر غير قابل للتحقق فيزيائيًا.
- إنه طلب مستفز. يميل المصابون بصدمات نفسية إلى تصنّع السعادة والظهور بهيئة طبيعية بينما يلتهمهم شعور الذنب إذا مالت أفكارهم تجاه الخيانة أو عدم الامتنان الكامنين في عدم المسامحة أو الغفران. يملك من أحببنا تأثيرًا حتى في الغياب والفقد وقد نبرر ذلك (إنها من أخذني إلى ذاك المكان، هو سبب شعوري بكذا) وغيرها من المبررات التي تقوض التعافي وتحكم سيطرة شعورنا بالخجل والعار.
- الأمر برمّته خدعة. يبدو الغفران خطوةً إيجابيةً ناجعةً تفيد الطرف المظلوم بقدر ما تفيد الطرف الظالم. لكن الحساسون قد يعتقدون من نصحك لهم بالغفران والمسامحة أنك سئمت من سماع شكواهم وأن حديثهم عن صدمتهم أصبح مصدر إزعاج لك، فيتحول معنى «اغفر وانسَ» إلى «كفاك حديثًا عن الموضوع وتعامل معه بنضج».
- أمر يجردك من حقوقك. كثيرًا ما يناضل الناجون من الصدمات لاستعادة جملة أحاسيسهم، كلها أو أيًا منها؛ إذ تمنحهم استعادة بعض من مشاعرهم المفقودة قوةً تسلبها منهم نصيحتك باللجوء إلى الغفران والمسامحة. فالناجون تغاضوا عن كثير من مشاعرهم التي انفضّت وعن هائل الفراغ الذي سكنهم، أو حتى عن الغضب الذي اعتراهم وقادتهم تياراته إلى المضي قدمًا، لكنك بنصيحتك تلك فستهدد شعورهم بالنصر والإنجاز وسيتلاشى شعورهم بهويتهم الجديدة.
- الوقت ما زال مبكرًا. قد يغفر أحدنا في يوم من الأيام وإن لم ينسَ. قد تغمرنا المشاعر بسعة الصدر والقدرة على الغفران والتحفيز الكافي لتجاوز الجرح ومسامحة من سبب لنا الصدمة. إلا أنه ليس لزامًا أن نمتثل لطلب أحدهم بالغفران، لكنه شعور يغمرك في حينه عاجلًا أو آجلًا.
- إنها خيارك أولًا وأخيرًا. مهما بلغت أهمية الغفران والتسامح فهي في نهاية المطاف خيارك وحقك. للغفران وزن وقيمة شخصية وتاريخية وروحانية، وحتى قانونية! إلا أنه حقُّ الناجين من الصدمات، ويمكنك الاحتفاظ به، بل والتذرع به دافعًا لأدائك مختلف الأنشطة.
- إنه تخويف وتوعّد. على الأقل أحيانًا. يخرج البعض من صدماتهم شديدي اليقظة والتنبه إلى الإشارات العاطفية والتفاصيل الحسية التي قد تتوضح لهم دون غيرهم فور سماعهم نصيحة «بادر بالغفران وكُن متسامحًا»، فقد يؤول ذلك إلى اقتراح أن الغفران هو الخيار الصائب الوحيد، وإن لم يختاروه فسيحكم عليهم بالقسوة وتحجر القلب والعند والغباء والأنانية وغيرها من الصفات.
- يُعد توجيهًا للأوامر. فهو قرميدة أخرى في حائط القرميد الآيل للسقوط. تصخب حيوات بعض الناجين من الصدمات بالإذعان والخضوع والامتثال للأوامر، بعد سنوات طوال قضوها مذعنين مستسلمين لشعور الذنب الذي يتملكهم إن لم يغفروا. ولربما يعد رفضهم الصفح والعفو صرخةً أوليةً تعلن حلول عصر المقاومة.
- إن الغفران ليس واجبًا. قد لا تقع الأذية التي نشعر بها على عاتق أحدهم دون آخر، وربما ساهمنا بتهويل الموقف إلى نهايته المأساوية هذه. لكن هل يعفيهم هذا مما ارتكبوه من أخطاء؟ ما من حكم واحد نطلقه ليناسب جميع المواقف؛ إذ تتفاوت مشاعرنا قوةً بين حب وكره وضغينة ولوم وعفو. وقد يكون أوان العفو لم يأن بعد.
السر يكمن في قدرتنا على تجاوز المحنة من دون أن نغفر لمن آذانا. التسامح ليس شرطًا إلزاميًا للتعافي، ويمكننا بدونه المضي قدمًا في الحياة، والعكس بالعكس.
اقرأ أيضًا:
ما العلامات التي تدل على أنك ضحية تلاعب نفسي؟
بعض الخطوات للمساعدة على التسامح مع النفس
ترجمة: بشرى عيسى
تدقيق: راما الهريسي
المصدر: psychologytoday