أظهرت الاستطلاعات الأخيرة أن مصدر ثلثي السعرات الحرارية التي يستهلكها الأطفال في الدول المتقدمة حاليًا يتمثل في المأكولات المصنعة بدرجة فائقة، ما يعد أمرًا مثيرًا للقلق؛ نظرًا إلى قلة البحوث التي تُعنى بتأثيرات هذا النظام الغذائي في فسيولوجيا الجسم. من أجل سد تلك الفجوة، قرر الطبيب كريس فان توليكن إجراء تجربة باتباع نظام غذائي يتكون من المأكولات المصنعة بنسبة 80% مدة 30 يومًا، ما أدى إلى حدوث تغيرات سلبية في جسمه ودماغه.
كان الطبيب فان توليكن يتبع في العادة نظامًا صحيًا، لكنه أراد محاكاة النظام الغذائي الذي يتبعه ملايين الأشخاص، ولا سيما الأطفال. يقول فان توليكن: «لم يكن هدفي تقليد الفيلم الوثائقي سوبر سايز مي، إذ لم أكن أجبر نفسي على تناول تلك الأطعمة، بل قررت أن آكل وقتما شعرت بالجوع، تمامًا كما يفعل الأطفال». كانت وجبته الأولى قطع دجاج مقلي من مطعم KFC، وقد شعر بمتعة كبيرة عندما تناولها.
عمل فريق من الأطباء والاختصاصيين على متابعته، ونصحه أحدهم بإجراء صورة رنين مغناطيسي لدماغه قبل التجربة وبعدها، إلا أن فان توليكن رأى أنها مضيعة للوقت وغير مجدية ولم يكن سيتبع النصيحة بسبب تكلفتها المرتفعة، لكن أظهر فحص دماغه بعد التجربة تغيرات مذهلة إلى درجة أن زملاءه في كلية لندن الجامعية عرضوا عليه صورتين رنين مغناطيسي مجانًا، إذ فاقت التغيرات كل توقعاتهم.
ما هي المأكولات المصنعة بدرجة فائقة؟
تتضمن المأكولات المصنعة بدرجة فائقة مكونات لا تُستخدَم في المطبخ العادي، من ضمنها المواد الكيميائية، وهي تختلف عن المأكولات المصنعة بدرجة منخفضة التي تُخلط بمكونات مألوفة مثل السكر أو الملح أو الدهون أو الزيت. مثلًا، تمثل الذرة المعلبة النسخة المصنعة من الذرة غير المصنعة، بينما تمثل رقائق الذرة النسخة المصنعة بدرجة فائقة؛ أي أن المأكولات المصنعة طعام معدل صناعيًا.
تؤدي المواد الكيميائية المضافة إلى الطعام الأغراض ذاتها إلى حد ما؛ مثل تحسين النكهة، وإطالة مدة الصلاحية، وتحوير اللون والقوام. يقول فان توليكن:
«يمكن تمييز الأطعمة المصنعة عن غيرها في خدعة القوام، أو ما يسمى علميًا بالاستساغة المفرطة، إذ قد يكون الطعام المصنع مقرمشًا عند القضم ولكنه في الوقت ذاته ناعم جدًا، ما يعني أن المرء ليس مضطرًا إلى مضغ الطعام إلى حد التعب، خلافًا للأطعمة التقليدية».
تضم فئة المأكولات المصنعة بدرجة فائقة مختلف أنواع الوجبات المجهزة مسبقًا وحبوب الإفطار والخبز المصنع وألواح الطاقة والمشروبات الغازية ورقائق البطاطا المقلية وغيرها. في معظم الأحيان، يمكننا معرفة أن طعامًا ما مصنعًا بدرجة فائقة إذا وجدنا كلمات تصعب قراءتها في قائمة مكوناته.
المخاطر الصحية الناجمة عن المأكولات المصنعة بدرجة فائقة
قد تبدو حقيقة أن المواد الكيميائية المضافة ضارة بالصحة حقيقةً بديهيةً، ولكن أوضحت دراسة حديثة أن زيادة استهلاك المأكولات المصنعة بدرجة فائقة يؤدي إلى ارتفاع خطر الموت عمومًا، وبينت دراسة فرنسية في عام 2018 وجود علاقة بين النظام الغذائي المبني على الطعام المصنع بدرجة فائقة والأمراض القلبية، في حين أظهرت دراسة أخرى في عام 2019 علاقة واضحة بين استهلاك المأكولات المصنعة وزيادة الوزن.
قرر باحثون من جامعة ميشيغن في دراسة جديدة ابتكار طريقة لقياس تأثير الأنواع المختلفة من الطعام في الصحة، وذلك عبر حساب عدد الدقائق التي نكتسبها أو نفقدها بعد تناول آلاف الأنواع المختلفة من الأطعمة.
يقول الأستاذ أوليفر جولييت، أحد الباحثين القائمين على هذه الدراسة: «يعادل غرام واحد من اللحم المعالج فقدان نصف دقيقة من الحياة. تحتوي قطعة النقانق على 60 غرامًا من اللحم المعالج، أي أنها تؤدي إلى فقدان 27 دقيقة، إضافةً إلى 10 دقائق أخرى بسبب احتوائها على الصوديوم والدهون المتحولة.
غير أن الدهون المتعددة غير المشبعة تضيف دقيقةً واحدة، لذا يؤدي تناول قطعة نقانق إجمالًا إلى فقدان 36 دقيقة من الحياة».
راعى الباحثون أيضًا الجانب البيئي في دراستهم. وجدوا أن معظم أنواع الطعام الصحي مفيدة أيضًا للبيئة، واستنتجوا أن تغييرًا بسيطًا في نظامنا الغذائي كفيل بصنع فارق ضخم. يقول جولييت: «إذا استعضت عن 10% من اللحوم المصنعة التي تستهلكها يوميًا بالفواكه أو الخضروات أو المكسرات، فإنك قد تقلل ثلث بصمتك الكربونية وتضيف 48 دقيقة إلى حياتك الصحية يوميًا».
تأثير الطعام المصنع في الدماغ
شعر فان توليكن بالتأثيرات الناجمة عن هذا النظام الغذائي في وقت أقرب مما توقع، إذ لاحظ التغيرات في غضون عدة أيام فقط. بدأ أولًا بتناول كمية طعام أكبر مما اعتاد عليه سابقًا. «قبل إدخالي الطعام المعالج إلى نظامي الغذائي، كنت أتناول عادةً ثلاث وجبات في اليوم مع وجبة خفيفة، لكن بعد أن بدأت بتناول المأكولات المصنعة بدرجة فائقة لاحظت أنني أتناول الطعام طوال الوقت، إذ إنه لم يكن كافيًا لإشباعي».
واجه فان توليكن أيضًا مشكلات في النوم، ووصف شعوره بأنه يشبه الخمار أو تأثيرات ما بعد الثمالة. إضافةً إلى ذلك، عانى فان توليكن اضطرابات في حركة أمعائه وصعوبة في الجماع وأصبح حانقًا ومتقلب المزاج.
بعد انتهاء مدة التجربة، أجرى فان توليكن سلسلة أخرى من الفحوصات، وتبين أن وزنه ازداد بمقدار 6.5 كيلوغرام، وارتفع مؤشر كتلة جسمه ونسبة الدهون في جسمه بدرجة ملحوظة. «لقد تغيرت حياتي من جميع النواحي، إذ تقدمت في السن بمقدار 15 سنة في غضون شهر واحد فقط».
فضلًا عن ذلك، تبين أن مستويات هرموناته تغيرت أيضًا، إذ ارتفع «هرمون الجوع» بمعدل 30%، في حين انخفضت نسبة الهرمون المسؤول عن الشعور بالشبع، ما يفسر شعوره المستمر بالجوع.
رغم أن فان توليكن تفاجأ بحدة هذه التغيرات وشدتها، فإن نتائج فحصه الدماغي الثاني أدهشت الخبراء على حد سواء.
تمثل الخطوط الحمراء المبينة في الصورة الروابط العصبية التي تكونت حديثًا في دماغ فان توليكن، وقد تكونت جميعها في غضون شهر واحد فقط. تعد هذه الظاهرة غير طبيعية وينبغي ألا تحدث بهذا المعدل خلال مدة قصيرة من الزمن.
بعد التمعن في فحصه الدماغي، وجد الخبراء تغيرات كبيرة في منطقتين رئيسيتين من الدماغ: المنطقة المتعلقة بالإدمان والمكافأة، والمنطقة المسؤولة عن تكرار السلوك الطائش، ما يبين أن الطبيب فان توليكن أصبح مدمنًا.
«يسبب هذا النوع من الطعام الإدمان، وهو مشابه للتبغ إلى حد كبير. إن ما يميز المأكولات المعالجة بدرجة فائقة ليس عمليات المعالجة الكيميائية والميكانيكية، وإنما الغرض الذي يقف وراء تلك العمليات، والغرض من هذه المأكولات هو تحقيق الأرباح، لذا فهي ليست طعامًا، إذ إن الغرض من الطعام هو التغذية، وهذه المأكولات ليست مغذية، وإنما مجرد مواد قابلة للأكل».
بعد مرور 8 أسابيع على بداية التجربة و4 أسابيع على انتهائها، أجرى فان توليكن فحص رنين مغناطيسي للمرة الثالثة، وأظهر الفحص أن التغيرات التي طرأت على دماغه ما زالت واضحة، أي أنه لم يعد إلى وضعه الذي كان عليه قبل التجربة. «لدي طفلان وتقلقني هذه المسألة كثيرًا، فإذا استطاعت هذه الأطعمة تغيير دماغي خلال أربعة أسابيع، فما عساها تؤثر في دماغ طفلي الناشئ الذي لا يبلغ من العمر سوى أربعة أعوام؟».
اقرأ أيضًا:
هل يمكن لما تأكله أن يعيد برمجة جيناتك؟
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: أسعد الأسعد
مراجعة: نغم رابي