(مقاطع معدّلة حول نيوتن من كتاب “في البدء: فيزياء، فلسفة وتاريخ علم الكون”)
ولد نيوتن حسب التقويم القديم (اليولياني) في كانون أول (ديسمبر) عام 1642، أو في كانون ثاني 1643 حسب التقويم الغريغوري الذي نتبعه الآن. أي أنّه ولد بعد مئة عام بالضبط من وفاة كوبرنيكوس ونشر كتابه “حول دوران الأجرام السماويّة”، وبعد عام واحد تقريبا مِنْ رحيل جاليليو. أصبحت في ذلك الوقت فرضيّة مركزيّة الشمس، لا الأرض، هي الفرضيّة المقبولة على أغلب علماء الفلك.
التحق نيوتن عام 1661 بجامعة كامبريدج حيث ابتدأ نبوغه الحقيقيّ بالظهور. أغلقت الجامعة عام 1665 أبوابها بشكل مؤقت، وذلك بسبب طاعون لندن الكبير، لهذا أضطرّ نيوتن أنْ يقضي سنتين في بيت والدته لا يفعل شيئا غير التفكير في المسائل الرياضيّة والعلميّة التي تشغله. قد تكون هاتان السنتان مِنْ أغزر فترات الإنتاج الفكريّ في حياة نيوتن، إذْ أنه اخترع خلالها علم التفاضُل والتكامل، وطوّر نظريّته عن الضوء، واكتشف قانون الجاذبيّة العام وقوانين الحركة الثلاثة. فقد عرّف من جديد علوم الرياضيات والفيزياء والفلك، وهو لم يبلغ بعد الثانية والعشرين من عمره. عُيِّن بعد عودته إلى “كامبريدج” بوقت قصير لمنصب الأستاذ اللوكاسيّ (Lucasian Professor) للرياضيّات ، والذي يعدّ بفضله من أهمّ المناصب العلميّة في العالم حتّى يومنا هذا.
حينما ظهر نيوتن على المشهد العلمي كان لدينا قوانين كبلر التي تصف كيف تتحرّك الكواكب، وقوانين جاليليو للحركة التي علمتنا أنَّ قوانين الطبيعة لا تتغيّر بالنسبة لجسم يسير بسرعة ثابتة، ووصفت مسار قذائف المدافع، وغيرها من القوانين التي وصفت ظواهر الطبيعية كما تظهر للمراقب. لكن ما كان ينقص بشكل واضح هو قوانين أعمق تعطينا المسبّبات الأساسيّة التي تجعل الكواكب تسير كقطع ناقص (مسار إهليلجيّ، Ellipse)، وقذائف المدافع تتّبع في حركتها قطع متكافئ (Parabola)، أو مسار حركة أيّ جسم بشكل عامّ.
إذ، كان فهم البشر العلمّي للطبيعة ما زال يفتقر لِفهم شموليّ يضع كلّ مركّبات الواقع تحت مظلّة واحدة، على غرار فيزياء أرسطو، مع الفرق أننّا أصبحنا بحاجة لنظرّية تمكّننا من حسابات كميّة، لا كيفيّة فقط. أي أنّ العالم كان حاضرا لظهور نيوتن. بمعنى أنه كانت هناك حاجة ماسة لنظرّية مُوَحِّدة تربط كلّ جوانب الواقع في نظام واحد متناسق.
كانت شخصيّة نيوتن حسّاسة جدّا، وكان من الصعب عليه أنْ يتقبّل النقد، حتّى وإنْ كان موضوعيّا، الأمر الذي يعتبر عاديّا في الحياة الفكرّية. فبعد أنْ انتقد “روبرت هوك” ورقة بحثّية قدّمها نيوتن للجمعّية الملكيّة (The Royal Society) امتنع نيوتن عنْ نشر أيٍّ من أعماله وانسحب من أيّ نقاش لسنين طويلة. لكن على الرغم من انطواء نيوتن على نفسه، إلّا أنّه استمرّ في العمل الدؤوب والإنتاج منقطع النظير، حيث قيل إنّه لم يكُنْ هناك مجال من المعارف الرياضيّة والعلميّة لم يغيّر نيوتن وجهه. ابتدأ نيوتن بالنشر مجدّدا عام 1684 بعد أنْ زاره الفلكيّ الملكيّ “إدموند هالي” (Edmond Halley) الذي أراد أنْ يتباحث معه في قوانين سير الكواكب. عندما أدرك هالي أنَّ نيوتن كان قد حسب مسارات هذه الكواكب منذ مدّة، أقنعه بأهميّة هذه النتائج ووجوب نشرها، وأنّه إنْ لم يفعل ذلك فمن الممكن أنْ يسبقه شخص آخر إلى نشرها.
بعد هذه الزيارة قرّر نيوتن أنْ ينشر بتوسّع نظريّاته في هذا المجال. وفي عام 1687 نشر أهمّ كتبه “المبادئ الرياضيّة للفلسفة الطبيعيّة” (Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica) الذي وضع به قوانين الحركة الثلاثة وقانون الجاذبيّة العامّ. وأثبت به مثلا أنّ قوانين كبلر الثلاثة لحركة الكواكب صحيحة، وأنّ حركة قذائف المدافع تتبع قطعا مكافئا (Parabola)، وأنّ الأجسام التي تتدحرج على السطح المائل تسير بتسارع ثابت يتعلّق فقط بزاوية ميلان هذا السطح، وغيرها الكثير من الظواهر الأخرى.
كذلك أجرى نيوتن تجارب حول الضوء بمساعدة الموشور التي أُثْبِتَ من خلالها أنّ الضوء الأبيض مركّب من ألوان الطيف، التي تُنتجه باجتماعها معاً. وقد كان أول من صمّم تلسكوبا من مرايا بدل عدسات، وهو التصميم الذي تستعمله التلسكوبات العصريّة حتّى يومنا هذا. وفي عام 1704 نشر كتابه “البصريّات” (Opticks) حول طبيعة الضوء، والذي حلّل به أيضا تصرُّف الضوء عند انكساره بواسطة موشور أو عدسة، وحيود الضوء واندماج الضوء ذي الألوان المختلفة، إلخ.
وتقول نظرّيته أنّ الضوء يتكوّن من جُسْيمات صغيرة تسير بسرعة كبيرة، لهذا مثلا يسير شعاع الضوء في خطوط مستقيمة (كما برهن على ذلك ابن الهيثم). سادْت هذه النظرّية علم البصريّات متغلّبة بذلك على منافستها، النظريّة الموجيّة للضوء التي اقترحها “كريستيان هويجنز” (Christiaan Huygens) حتى بداية القرن التاسع عشر عندما اتّضح أنّ تصّرف الضوء هو موجيّ. أما اليوم فنحن نعرف أنّ للضوء طبيعة ازدواجيّة، جسميّة وموجيّة معا، وهو ما يُشكّل أساس نظرّية الكّم.
على الرغم من نجاحات نيوتن العظيمة إلّا أنّنا نعرف اليوم أنّ القوانين الثلاثة التي وضعها حول حركة الأجسام، وقانون الجاذبيّة العامّ الذي وجده من قانون كبلر الثالث، ونظرّيته حول البصريّات وغيرها من نظرّياته العلميّة، هي في أحسن الأحوال تقريب غير دقيق لقوانين الطبيعة. ونعرف أنّه يمكن وصف الواقع الموضوعيّ بشكل أعمق وأدقّ عن طريق نظريّة الكم ونظريّة النسبيّة العامّة اللتيْن تمّ وضعهما في بداية القرن العشرين. إذن فيمَ تكمن عظمته؟
كان نيوتن أول من فهم العلاقة العميقة بين الرياضيّات والفيزياء وعلّمنا كيف نقرأ كتاب الطبيعة بواسطتها. وهو أيضا أوّل من وضع نظاما من القوانين العلميّة الدقيقة التي وحّدت الواقع، حيث مكّنتنا أنْ نرى الكم الهائل من الظواهر في الطبيعة على أنّها تتبع عدداً قليلاً من القوانين الأساسيّة، والتي تمكّننا من حسابات كميّة دقيقة نستطيع من خلالها أنْ نتنبأ ونفسّر حركة كّل شيء من حولنا. كما أنّه أوضح لنا بأنَّ الكون كلّه يخضع لنفس القوانين وليس هناك فصل بين قوانين الأرض والسماء (كما كان الحال في فيزياء أرسطو). لم يغّير نيوتن فقط مفاهيم فيزياء الحركة والضوء، بل غيَّر بشكل أساسيّ مفهومنا للكون، وكان دليلنا الكبير في كشف كيف يُعطينا فهم الطبيعة إمكانيّة صياغة أسلوب حياة البشر بشكل جديد في كلّ مكان. لقد كان نيوتن البوتقة التي صهرت كل مركبات الثورة العلميّة في كيان واحد متكامل شمولي. هذا وما زال دور وتأثير هذه الثورة على حياة البشر في ازدياد مستمرّ، وذلك نتيجة لما يصحبها من تطوّر تكنولوجيّ لا يتوقّف ولا ينضب.
كانت مساهمته في الرياضيّات وحدها كافية لأنْ تجعله من أعظم العلماء في التاريخ، فهو مكتشف حساب التفاضُل والتكامُل الذي تطوّر إلى ما يعرف اليوم بمجال “التحليل الرياضيّ” (Mathematical Analysis) ويشكل فرع كبير من فروع الرياضيّات. كذلك لا يمكن إهمال مساهمته في تطوّر الفلسفة وبالذات عِلم المعرفة. نتيجة لأعماله هو وديكارت و”هوبس” (Hobbs) نشأت الفلسفة الميكانيكّية التي تصف الواقع كَسِلسلة أحداث مرتبطة ببعضها البعض يُحدّد فيها الماضي الحاضر، والحاضر المستقبل، بشكل حتميّ.
دارت عدة خلافات بين نيوتن وبين الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz)، أهمها الخلاف الذي دار خلال عامي 1715 و1716 على شكل مراسلات بين لايبنتز نفسه وبين “صمويل كلارك” (Samuel Clarke)، أحد أتباع نيوتن المخلصين، ونُشرت الرسائل بعد موت لايبنتز في كتاب بعنوان “مراسلة لايبنتز وكلارك” (The Leibniz – Clarke Correspondence). ما زالت هذه المراسلة تشغل الفلاسفة والمفكّرين حتّى وقتنا هذا، وبالذات النقاش حول طبيعة الفراغ والزمان حيث اعتقد كلارك، كأحد أتباع نيوتن، أنّهما مفهومان مطلقان، بمعنى أنّهما قائمان بمعزل عن أيّة مادة وحركة. إضافة إلى ذلك، أنّ الفراغ ثابت لا يتغيّر ومتجانس ويمتدّ من مالانهاية إلى ما لانهاية، وكذلك الزمن ابتدأ منذ الأزل ويتّجه نحو الأبد بوتيرة ثابتة لا تتغيّر. لهذا فإن الفراغ والزمان لا يحتاجان إلى المادّة والحركة من أجل وجودهما، بينما المادّة والحركة ليس لهما وجود من غير الفراغ والزمان. في المقابل، طرح لايبنتز أُطروحة أخرى وهي أنَّ الفراغ والزمان هما تعبيران عن وجود الأجسام ووتيرة حركتها، أي أنّهما يكتسبان معناهما من خلال وجود المادّة (الأجسام) والحركة اللتيْن من دونهما ليس للفراغ والزمان معنًى. من الجدير بالذكر أن هذا النقاش أثّر في أينشتاين تأثيرا كبيرا بالذات في صياغته لنظريّة النسبيّة التي أثبتت أنّ ادّعاءات لايبنتز هي الأقرب إلى الحقيقة من ادّعاءات نيوتن وكلارك.
كانت لنيوتن مساهمات عديدة أخرى في شتّى المجالات الاداريّة والاجتماعيّة، وحتّى السياسيّة، فأصبح رئيسا للجمعّية الملكيّة، وعضواً في البرلمان الانجليزيّ ممثّلا عن جامعة “كامبريدج”، وكذلك رئيسا لدار سكّ العملة الملكيّة وغيرها من الفعاليّات الجماهيريّة. لكن أغرب ما انكشف في بداية القرن العشرين عن نيوتن هو انشغاله شبه المهووس في دراسة الخيمياء (Alchemy)، التي كانت أقرب إلى الشعوذة والسحر على الرغم مِنْ أنّ لها جوانب علميّة بحتة أيضا، حيث كرّس لها أكثر ممّا كرّس لأيّ موضوع آخر أشغله في حياته. فقد كان نيوتن، مثله مثل أيّ شخص آخر في التاريخ، ابن عصره.
إضافة إلى ذلك، كان نيوتن متديّنا جدّا ورأى في عظمة الكون وتجانسه دليلاً على قدرة إلهيّة غير محدودة. بلْ وكان يعتقد أنَّ الله يتدخّل بشكل دائم، ليس فقط في حياة الناس، بل في الطبيعة نفسها ليحافظ على تجانسها. ومن آرائه الدينيّة الغريبة بالنسبة لعصره ومجتمعه أنّه لم يكن يؤمن بطبيعة المسيح الإلهيّة، بل كان يعتقد أنّه إنسان كباقي الأنبياء، وهذا شبيه بمفهوم المسيح في الدين الإسلاميّ والمذهب النسطوريّ النصرانيّ. ومن الطريف في الأمر أنّه كان عضوا في كليّة الثالوث المقدّس (Trinity College) في كامبردج حيث كان يجب أنْ يُقْسِمَ يمين الولاء والدفاع عن هذا الثالوث (أي طبيعة الإله الثلاثيّة في المسيحيّة: الآب، والابن، والروح القدُس) الذي لم يكن يؤمن به. نحن نعرف اليوم أنّه كان ينوي إيقاف عمله في الجامعة حتّى لا يضطر أنْ يعطي مثل هذا القَسَم، لأنَّ آراءه كانت تحمل معها عقوبة السجن وحتى الإعدام، لكنّه نجح بمساعدة أصدقائهِ في الحصول على إعفاء ملكيّ من هذا القَسَم. هذا وبقيت فعاليّاته في الخيمياء، وآرائه الدينيّة، بمثابة سرّ كبير حتّى تمّ تحرير أوراقه الخاصّة في القرن العشرين، ممّا أدّى إلى صدمة كبيرة جّدا بين العلماء والمؤرّخين، وذلك للتّناقض الكبير بين الصورة التي شكّلها الناس عن نيوتن كمثال للتفكير العقلاني والمنطقي وبين طبيعته الحقيقيّة.
أخيرا، لفهم تأثير هذا الرجل على معاصِريه يكفي أنْ نقرأ مثلا ما كتبه عنه فولتير الذي كان معجبا جدا بنيوتن خاصّة، والمجتمع الإنجليزيّ عامة. وهو إعجاب ظهر بشكل واضح في كتابه الذي خصّصه لهم بعنوان “رسائل فلسفيّة” (Philosophical Letters؛ يُعرف الكتاب أيضا بعنوان “رسائل عن الإنجليز”). حضر فولتير خلال فترة المنفى التي عاشها في انجلترا جنازة نيوتن، وأُصيبَ بالدهشة الكبيرة من التبجيل العظيم والجنازة المهيبة التي حظي بها هذا الرجل الذي ولد لِأسرة من الفلاّحين، والذي دفن في قبر أفخم من قبور الملوك في كنيسة “وست منستر”. قال فولتير في كتابه “منذ وقت ليس ببعيد تساءلت مجموعة متمّيزة من الرجال عن أعظم رَجُلٍ في التاريخ، هل هو قيصر، اسكندر المقدونيّ، تيمور لنك، أم كرومويل؟ فأجاب أحدهم أنّه بلا شكّ كان إسحاق نيوتن. وهو محق في ذلك: لأنّه هو الذي أسر عقولنا بقوّة الحقيقة، وليس مثل أولئك الذين يأسرون الناس بقوّة العنف، لهذا فهو يستحقّ منّا التبجيل”.
أو مثلا ما قاله الشاعر الانجليزي “ألكسندر بوب” (Alexander Pope) الذي عاصر نيوتن:
Nature and nature’s laws lay hid in night
God said, “Let Newton be” and all was light
ترقد الطبيعة وقوانينها مختبئة في الظلماء
قال الله “ليكن نيوتن” فأصبح كل شيء ضياء
وهذا يصف بشكل واقعيّ تأثير هذا العبقريّ الكبير خلال حياته، ولقرون طويلة بعد مماته.