نيقولا الثاني ، أو (نيكولاس ألكساندروفيتش)، آخر القياصرة الروس، وُلد في 6 مايو عام 1868 في مدينة بوشكين قرب سان بطرسبرغ، وقُتل في إيكاترينبورغ في 17 يوليو 1918 برفقة زوجته ألكساندرا وأولادهما على يد البلاشفة بعد ثورة أكتوبر.
نشأته
كان نيقولا الابن الأكبر وولي العهد لألكساندر ألكساندروفيتش (القيصر ألكساندر الثالث، منذ 1881) وقرينته (مُبجلة الدنمارك) ماريا فيودروفانا. خلف والده في 1 نوفمبر 1894، وتُوّج قيصرًا في 26 مايو 1896. لكن نيقولا لم يكن مؤهلًا لهذا المنصب ومسؤولياته المعقدة بوصفه حاكمًا لإمبراطورية شاسعة.
تلقى نيقولا تدريبًا عسكريًا على يد مدرب خاص، وتشابهت أذواقه واهتماماته مع سائر الشباب الروس، كان بالغ السرور بالتمارين البدنية وبريق الحياة العسكرية بأزيائها الموحدة ونياشينها وأوسمتها، ورغم تمتعه بشخصية جذابة، لم تكن المناسبات الرسمية تُشعره بالراحة، إذ كان خجولًا بالفطرة، وفضل الحياة مع عائلته بعيدًا عن الأضواء، ما منعه الاتصال الوثيق برعيته.
أما عن عائلته، فقد كان مُخلصًا لزوجته (ألكساندرا) التي كانت -على عكسه- قوية الشخصية. لكن ثمن علاقته الطيبة بها كان فادحًا، إذ انسحقت إرادته تحت تأثيرها، وصارت نصائح الروحانيين والمعالجين وترهاتهم محل اعتبار، خاصةً (راسبوتين)، الذي اكتسب سُلطةً هائلة عليهما.
حكمه
كان لنيقولا ترهاته الخاصة أيضًا، التي تمثل أكثرها في معارفه من الرجال المشبوهين الذين كانوا يمدونه بمعلومات مغلوطة عن الحياة في روسيا، كانت معلومات مغلوطة بالفعل، لكنها أكثر جلبًا للراحة من الصورة التي تنقلها التقارير الرسمية. لم يثق نيقولا الثاني في وزرائه لشعوره بتفوقهم الذهني عليه، وخوفه من أن يسلبوه سلطته.
كان تصوره عن دوره بوصفه حاكمًا مستبدًا شديد السذاجة، إذ يستمد سُلطته من الإله، وبذلك فهو ليس مسؤولًا إلا أمام نفسه فقط! بهذا المفهوم اعتقد نيقولا أن من واجبه الحفاظ على هذه السلطة المطلقة وعدم المساس بها، لكنه كان ضعيف الهمة والإرادة، ولإخفاء ذلك تعمد تزييف هالة من الثقة بالنفس تخفي تحتها شخصيته المترددة.
ومنعه استبداده من اتخاذ سياسة بنَّاءة كان بإمكانها إنقاذ حكمه، لكنه لم يلبث أن أعلن آراءه في خطاب أمام عدد من النواب الليبراليين الممثلين للجهات المحلية المتمتعة بالحكم الذاتي، التي يُطلق عليها (zemstvo)، واصفًا تطلعاتهم للمشاركة في الحكم بأنها «أضغاث الأحلام»، ثم واجه الاضطرابات المتزايدة بالقمع المفرط.
أما عن سياسته الخارجية فقد كانت مواقفه الساذجة الخرقاء أحيانًا تحرج دبلوماسييه المحترفين. فمثلًا، أبرم تحالفًا مع الإمبراطور الألماني ويليام الثاني خلال لقائهما في (بجوركو) في يوليو 1905، في حين كانت روسيا متحالفةً بالفعل مع فرنسا، العدو التقليدي لألمانيا! وكان نيقولا أول حاكم روسي يهتم شخصيًا بآسيا، فحينما كان وليًا للعهد، زار الهند والصين واليابان، ثم أشرف على بناء خط سكك حديدية عبر سيبيريا، في محاولة لتعزيز النفوذ الروسي في كوريا، إذ كان لليابان نفوذ هناك أيضًا. وكانت تلك المحاولات -جزئيًا- سببًا لاندلاع الحرب اليابانية الروسية في مايو 1904. أحبطت هزيمة روسيا في هذه الحرب أحلام نيقولا الثاني في جعل روسيا قوةً أوراسية (أي أوروبيةً- آسيوية) عُظمى، تضم الصين والتبت وإيران تحت لوائها، وسببت مشاكل خطيرة في البلاد قامت إثرها ثورة 1905.
عدَّ نيقولا كل معارضيه -بصرف النظر عن توجهاتهم- مندسين خبثاء، متجاهلًا نصيحة رئيس وزرائه (سيرجي يوليفيتش)، ورفض تقديم أي تنازلات للدستوريين، حتى أجبرته الأحداث على تقديم تنازلات أكثر مما كان ليقدم لو تحلى بالمرونة منذ البداية. ووافق مُجبَرًا على إنشاء جمعية تمثيلية وطنية (مجلس الدوما) بسلطات استشارية في مارس 1905، ووعد في بيان 30 أكتوبر بنظام دستوري، لا يقر بموجبه أي قانون دون موافقه مجلس الدوما، إضافةً إلى إقراره امتيازات ديموقراطية وحريات مدنية إضافية.
لكن نيقولا لم يكن يهتم كثيرًا بالوفاء بالوعود التي قطعها مُكرهًا، فسعى إلى استعادة وضعه السابق، وما كانت قوانين مايو1906 إلا تكريسًا لاستبداده القديم، وإضافةً إلى ذلك، دعم (اتحاد الشعب الروسي)، وهي منظمة يمينية متطرفة انتهجت الإرهاب ونشرت الدعاية المعادية للساميّة. وسرعان ما استُبعد (يوليفيتش) ووُجه إليه اللوم في بيان أكتوبر.
ووُئد أول مجلس (دوما) في مهده بوصفهم (متمردين)، وعُين (بيوتر أركاديفيتش ستوليبين) رئيسًا للوزراء، وكان رجل دولة مخضرمًا، قاد انقلابًا لحل مجلس الدوما الثاني في يونيو1907 . ورغم إخلاصه، لم يثق به الإمبراطور الأرعن وسمح بتقويض سُلطاته إثر مؤامرة، إذ كان (ستوليبين) ممن تجرأوا على مناقشه نفوذ (راسبوتين) المتنامي، ومن ثم اكتسب عداوة الإمبراطور.
كان نيقولا الثاني عادةً مترددًا لكنه خضع في النهاية لما أملته عليه (ألكساندرا). وتجنبًا للفضائح التي قد يثيرها راسبوتين حول العائلة الإمبراطورية، تدخل نيقولا تدخلًا متعسفًا في شؤون المجمع المقدس، ودعم القوي الرجعية ضد من يريدون «النيل من مكانة الكنيسة الأرثوذكسية».
الحرب العالمية الأولى
بعد إفشال اليابان المساعي الروسية في الشرق الأقصى، تحولت أنظار روسيا إلى البلقان. تعاطف نيقولا مع التطلعات الوطنية للسلام، وكان حريصًا على السيطرة على المضايق التركية، لكنه خفف من ميوله التوسعية بسبب رغبة صادقة في الحفاظ على السلام بين القوى العظمى.
وعقب اغتيال الأرشيدوق النمساوي (فرانز فرديناند) في (سراييفو)، حاول نيقولا جاهدًا تجنب الحرب الوشيكة من طريق العمل الدبلوماسي، وقاوم ضغوط الجيش من أجل التعبئة العامة حتى 30 يوليو 1914، ثم قامت الحرب، وعزز اندلاعها أركان حكمه مؤقتًا، لكن نيقولا لم يبذل أي جهد ليحافظ على ثقة شعبه، واستمر في دق مسامير نعشه، فهمّش مجلس الدوما، وأعاق كل مساعي المنظمات الوطنية للإصلاح، ما أدى إلى اتساع الهوة بين الطبقة الحاكمة والرأي العام باطراد.
في تلك الأثناء، حرضت ألكساندرا نيقولا ضد ابن عم والده ذي الشعبية الكبيرة، القائد (نيقولا الأكبر). وفي سبتمبر 1915، تولى الإمبراطور المحكمة العليا، ليُقيل القائد بنفسه في خطوة احتج عليها جميع وزرائه تقريبًا، لأثرها في معنويات الجيش في هذا الوقت العصيب، وكالعادة تجاهل نصيحتهم ثم أقالهم. وقد كان لتدخله العشوائي في الأمور التنفيذية ثمن سياسي فادح.
ففي غيابه -وبتشجيعه وموافقته- أصبحت الإمبراطورة هي الحاكمة الفعلية. ونتج من هذا الإجراء وضع غريب، ففي خضم الصراع اليائس من أجل بقائه، أطاح القيصر بالوزراء والمسؤولين الأكفاء، واستبدل بهم آخرين عديمي النفع بترشيح من راسبوتين! وضمت المحكمة العليا مجموعةً من المتهمين بالخيانة، ما أدى لنمو شعور بالسخط على نطاق واسع وسريع. وفي خطوة يائسة، تآمر المحافظون على خلع نيقولا على أمل إنقاذ الملَكية.
حتى مقتل (راسبوتين) لم يدق أجراس الخطر في عقل نيقولا ورفاقه من ذوي النفوذ، فقد انفصل عن الواقع تمامًا!
النهاية
عندما اندلعت أعمال الشغب في بتروغراد (سان بطرسبرغ) في 8 مارس 1917، أمر نيقولا الثاني قائد المدينة باتخاذ تدابير حازمة، وأرسل قواته لاستعادة النظام. لكن بعد فوات الأوان، إذ استقالت الحكومة، ودعا مجلس الدوما -مدعومًا من الجيش- الإمبراطور للتنازل عن العرش. وفي 15 مارس، تنازل نيقولا عن العرش لأخيه (مايكل) -لا لابنه كما كان يخطط سابقًا- الذي رفض تولي الحكم.
اعتقلت حكومة الأمير (لفوف) المؤقتة نيقولا. كان مُخططًا نفيه وعائلته إلى إنجلترا، لكن معارضة مجلس (بتروغراد) السوفييتي ومجلس العمال والثوار أدت إلى نقلهم إلى (توبولسك) في سيبيريا. وفي أبريل 1918، نُقلوا إلى (إيكاترينبورغ) في جبال الأورال حيث قابلوا مصيرهم المحتوم.
في الساعات الأولى من يوم 17 يوليو 1918، اقترب الجيش الأبيض المناهض للبلاشفة من المنطقة، وتلقت القوات المحلية أوامر بعدم التدخل، وذُبح جميع السجناء في قبو المنزل، وأُحرقت جثثهم وألقيت في بئر منجم مهجور، ثم دفنت على عجل في مكان آخر. عثر فريق من العلماء على الرفات سنة 1976، لكن لم يُعلَن اكتشافهم حتى عام 1994، وجاء تحليل الحمض النووي إيجابيًا: كانت الرفات لنيقولا وألكسندرا و3 فتيات (أنستازيا وتاتيانا وأولغا) و4 خدم.
أُقيمت جنازة رسمية سنة 1998 لرفاتهم، وأُعيد دفنها في (سان بطرسبرغ)، في قبو كاتدرائية (سان بيتر وسان بول). لم يُعثر على بقايا (ألكسيس) و(ماريا) حتى عام 2007.
في 20 أغسطس 2000، خلعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على الإمبراطور وعائلته لقب (حاملي الشغف) -وهي الرتبة الأدنى قداسة- بسبب ما أظهروه من تقوى في أيامهم الأخيرة. وفي نهاية درامية بعد قرابة قرن من مقتل آل (رومانوف)، حكمت المحكمة العليا الروسية برد الاعتبار للعائلة، وعدَّت إعدامهم «قمعًا غير مُبرَّر».
اقرأ أيضًا:
الأساطير وعلم الفلك: من مظاهر الحضارة اليونانية القديمة
ترجمة: أحمد محمد إبراهيم
تدقيق: علي الضحية
مراجعة: أكرم محيي الدين