بدأت الجراحة العصبية كما نعرفها اليوم بالتطور في أواخر القرن التاسع عشر. غير أن التدخلات التي تطلبت حفر ثقب في الجمجمة، الذي يُعرف الآن بنقب الجمجمة كانت أقدم بكثير. فمتى كانت المرة الأولى التي تطرق فيها البشر إلى هذا الإجراء؟ ولمَ؟
اشتُق مصطلح النقب (Trepanation) من الكلمة اليونانية القديمة (Trypanon)، التي تعني مثقاب أو منقب.
رغم وجود بعض الاختلافات غير الملحوظة في كيفية إجراء الأشخاص للنقب على مر العصور وفي أماكن مختلفة من العالم، بقيت الأساسيات دون تغيير.
يتطلب هذا الإجراء -المعروف أيضًا باسم ثقب الجمجمة أو الحفر- حفر ثقب في الجمجمة باستخدام أداة حادة.
أما في وقتنا الحاضر، فأحيانًا يجري الأطباء حج القحف -وهي عملية يُزال فيها جزء من الجمجمة ليصبح الوصول إلى الدماغ ممكنًا عند الحاجة إلى إجراء جراحة في الدماغ.
خلافًا لعملية النقب -التي تُحدث ثقبًا دائمًا في الجمجمة- تتطلب الطريقة الحديثة استبدال قطعة العظم التي يزيلها الجراح.
لا يجري الجراحون حج القحف إلا لأسباب استثنائية، مثل إزالة ورم دماغي أو لعلاج تمدد الأوعية الدموية. فلماذا اعتقد أسلافنا أنه من الضروري خرق الجماجم، وإلى متى يعود تاريخ ثقب الجمجمة؟ تحقق الباحثون من هذه الأسئلة لسنوات، وفيما يلي نشرح ما وجدوه.
الأصول الباكرة للنقب
تعود أقدم الجماجم المكتشفة التي تمثل أدلة على عمليات النقب إلى العصر الحجري المتوسط، نحو 6000 قبل الميلاد. وقد وُجدت في شمال إفريقيا وأوكرانيا والبرتغال. وعلى هذا، يبدو أن النقب قد بدأ في العصر الحجري.
وفقًا لإريك كروبيزي من جامعة بول ساباتير في تولوز بفرنسا وزملائه، فإن أقدم الأمثلة على النقب -من العصر الحجري المتوسط- محدودة، إضافةً إلى أنها تظهر ضمن عشائر من الصيادين الجامعين، متباعدةً في الزمان والمكان.
أمثلة أخرى لنقب الجمجمة قديمًا -تحمل الجماجم من مواقع مثل جمهورية التشيك وفرنسا وبعض مناطق أمريكا الجنوبية علامات لعمليات نقب أُجريَت بطريقة أقل بدائية- أتت من العصر الحجري الحديث. ومع ذلك لم يختفِ النقب مع أسلافنا في العصر الحجري بل واصل التطور وصولًا إلى العصور الحديثة. وقد أجرى كل من الرومان والإغريق القدماء نوعًا من عملية نقب الجمجمة.
حظي هذا باهتمام أبقراط (460 – 370) قبل الميلاد، وجالينوس نحو (130 – 210) ميلادية، وكلاهما من أجداد الطب الحديث.
أيضًا تشير أدلة إلى استمرار حدوث عمليات نقب الجمجمة في أجزاء من أوروبا في العصور الوسطى، مثل إسبانيا. مع ذلك، ووفقًا لمؤلفي دراسة الحالة سنة 2011، فإن عمليات نقب الجمجمة الجراحية كانت أقل شيوعًا في العصور الوسطى، ولم يُعرف سوى عدد قليل من الحالات في أنحاء أوروبا.
أما في أمريكا الجنوبية وبيرو، فيبدو أن هذا الإجراء وصل إلى درجة عالية من الشعبية والحرفية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر ميلاديًا.
لماذا قام أسلافنا بهذا الإجراء؟
عندما يتعلق الأمر بالدوافع وراء الممارسات القديمة للنقب، فالأسئلة أكثر من الإجابات، خاصةً أن الشعوب المختلفة لجأت لهذا الإجراء بالغ الخطورة لأسباب متعددة. ويبقى الغرض من إجراء النقب في بداياته غير واضح.
يقترح «فرناندو راميرس روزي» و«آلان فرومنت» أن الناس في العصر الحجري الحديث ربما فعلوا ذلك لأسباب طبية، ودار جدل حول ممارسة أسلافنا الأوائل تدريباتهم على جماجم الحيوانات، إذ وُجدت جمجمة خنزير بري وجمجمة بقرة تحملان علامات النقب.
حتى إنهما افترضا -بأخذ جمجمة البقرة القديمة مثالًا- إمكانية كون النقب قد حدث عندما كان الحيوان لا يزال حيًّا، وأنه أُجري بوصفه تدخلًا بيطريًا.
كتب الباحثون: «في حال أجريت جراحة الجمجمة على البقرة من أجل إنقاذ الحيوان، فإن تشامب ديوراند -حيث وجد علماء الآثار الجمجمة- يقدم أقدم دليل على ممارسة الجراحة البيطرية. أما إذا استُخدم النقب تقنيةً للتدريب، فإن البقرة تمثل أول دليل على التجارب الجراحية على حيوان، ما يشير إلى أن هذه الممارسة كانت موجودة بالفعل سنة 4000 قبل الميلاد».
أسباب طبية أم روحية؟
تشير مجموعة أبقراط -وهي مجموعة مرجعية للنصوص الطبية اليونانية القديمة المرتبطة بتعاليم أبقراط- أيضًا إلى الأسباب العلاجية لعمليات النقب. فنجد مثلًا أحد هذه النصوص تحت عنوان أماكن في الإنسان، يوصي بالنقب للوقاية من المضاعفات المتعلقة بكسور الجمجمة فيقول: في حالات كسر الجمجمة، إذا كانت الجمجمة مكسورة وكان هناك كسر/شق، فهذا أمر خطير. يجب إجراء الحفر في هذه الحالة لمنع تدفق القيح عبر كسر العظم، ما قد يسبب انتقال العدوى إلى الأغشية السحائية، إذ قد يدخل في هذا المكان الضيق لكن لن يسعه الخروج، ما قد ينتج عنه أعراض مثل الضيق النفسي والجنون.
ومع ذلك، في أوروبا في العصور الوسطى، بدت أسباب نقب العظم متنوعة بكثرة، اعتمادًا على الثقافة التي تجريها، مثلًا، أجرى السكان الهنغاريون النقب الشعائري بعد الموت، إلا أنه لم يتضح تفسير لجوء الجماعات الأوروبية الأخرى إلى إجراء عمليات النقب بينما الشخص ما زال حيًّا.
وفقًا لمؤلفي دراسة الحالة عام 2011، ربما كان النقب بهدف علاج الشكاوى المتراوحة بين الإصابات الجسدية والمشكلات الصحية العقلية والصرع. كتب الباحثون: هذا هو السؤال المهم حول نقب الجمجمة. قد تُعزى ممارستها إلى أسباب عديدة.
من الأسباب المُقترحة:
- أسباب متعلقة بالشعوذة، أو أسباب دينية مثل تخليص الناس من الشياطين التي قد تعذبهم.
- إجراء استهلالي في سياق بلوغ الشخص سن الرشد أو أن يصبح محاربًا.
- أسباب علاجية كمعالجة الأورام والاختلاجات والصرع والصداع النصفي وفقدان الوعي والتغيرات السلوكية.
- معالجة الرضوح مثل كسور الجمجمة.
في حالة شعب الإنكا في البيرو، كشفت التحقيقات الأخيرة المزيد من الأدلة. يعود الفضل جزئيًا هنا إلى وفرة الجماجم التي تقدم دليلاً على أن عمليات ثقب الجمجمة قد التأمت بنجاح.
في مقابلة مع ناشيونال جيوغرافيك، اقترح عالم الأنثروبولوجيا جون فيرانو -مؤلف كتاب: ثقوب في الرأس، فن وآثار النقب- أن الإنكا ربما أجروا عملية النقب بالصدفة، ثم اكتشفوا أنه قد يكون تدخلًا طبيًا مفيدًا.
يقول فيرانو: «ربما بدأ النقب شيئًا بسيطًا جدًا في حالة الإنكا، تنظيف فروة الرأس بعد ضربة في الرأس، وبعض الأشياء البسيطة مثل انتزاع قطع العظام المكسورة. لقد تعلموا مبكرًا أن هذا العلاج قد ينقذ الأرواح. لدينا أدلة دامغة على أن النقب لم يُستخدم لتحسين الوعي أو بوصفه نشاطًا شعائريًا بحتًا، بل ارتبط بالمرضى الذين يعانون إصابات حادة في الرأس، خاصةً كسر الجمجمة».
نقب الجمجمة في العصر الحديث
واصل النقب التطور خلال العصر الحديث. ما يُعد -جزئيًا- سبب الجدل حول كونه البادرة الأولى لنشأة جراحة الأعصاب، إلا أن الأطباء الآن يحذرون من خطورة هذا الإجراء.
يشير المؤرخون الطبيون إلى القرن الثامن عشر باسم قرن النقب. لأنه في ذلك الوقت، أصبح الجراحون الأوروبيون مهتمين خصوصًا بالاستخدامات المحتملة لهذه الممارسة. يُزعم أن نقب القرن الثامن عشر نُفذ أولًا بوصفه علاجًا بيطريًا، ينفذه الأطباء البيطريون على الحيوانات الأليفة لعلاج أنواع من العدوى أو لإزالة الأورام.
على مدار القرن، استخدم الأطباء النقب لعلاج الارتجاج والتهاب الدماغ. بحلول نهاية القرن الثامن عشر، انقسمت الآراء في المجتمع الطبي حول جدوى هذا الإجراء وأضراره.
في القرن التاسع عشر، فقد «النقب» بعض حظوته الطبية، مع أن عمليات نقب الجمجمة كانت شائعة خصوصًا خلال فترة الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865). في ذلك الوقت، أوصى الأطباء به في سياق تنظيف جروح الرأس وعلاجها.
في النهاية، أفسح النقب الطريق لإجراء «حجّ القحف» المعقد. لكن ذلك لا يعني أن عملية ثقب الجمجمة فقدت حظوتها بالكامل. إذ إنه على مدى القرنين الماضيين، أصبح بعض الناس مقتنعين بأن هذه الممارسة القديمة قد تقدم فوائد جسدية وروحية.
مثلًا، قررت الفنانة البريطانية وعضو اللوبي -أماندا فيلدينغ، كونتيسة ويميس ومارس- إجراء عملية نقب ذاتي سنة 1970. كانت مقتنعة بأنه سيحسن تدفق الدم إلى دماغها.
اعتقدت فيلدينغ -كما أوضحت في مقابلة لاحقة- أنه مع تصلب عظام الجمجمة في الطفولة، ينخفض تدفق الدم إلى الدماغ. ما يعرضنا -حسب اعتقادها- لظروف تحمل خطر الإصابة بالتنكس العصبي، وقد يحل النقب هذه المشكلة.
ترشحت فيلدينغ مرتين -عامي 1979 و1983- للبرلمان البريطاني، وطلبت أن تبدأ خدمة الصحة الوطنية بتوفير عمليات نقب الجمجمة للمواطنين البريطانيين.
اتضح أن النقب استحوذ أيضًا على اهتمام الموسيقي جون لينون، حتى أنه حاول إقناع صديقه بول مكارتني بهذا الإجراء.
كان النقب أيضًا موضة في أواخر التسعينيات، ما دفع المتخصصين مثل لورانس واتكينز إلى إصدار بيان يحث الناس على عدم تجربة ذلك في المنزل.
حذر واتكينز: لإحداث ثقب في رأس شخص ما الكثير من الأسباب الوجيهة، وتنفيذ ذلك على يد جراح أعصاب لن يكون أمرًا محفوفًا بالمخاطر، لكن أن يفعل الشخص ذلك بنفسه، فإن المخاطر كبيرة. مشيرًا إلى أن الإجراء قد يؤدي إلى الخمج وتلف الدماغ.
اقرأ أيضًا:
ما سبب نمو البنية العظمية الغريبة من الجمجمة عند اليافعين؟
تم العثور على النسبة الذهبية ضمن جمجمة الإنسان، فماذا يعني ذلك؟
ترجمة: ميس الإبراهيم
تدقيق: إدريس زويتن
مراجعة: أكرم محيي الدين