لا يقتصر استخدام المثل الشهير [عدو عدوي هو صديقي] على دروس اللغة الإنجليزية والأعمال الدرامية الانتقامية فقط. لا ينبع هذا المثل فقط من النظرية الاجتماعية النفسية التي اقترحها العالم النفسي فريتز هيدر في أربعينيات القرن الماضي، بل أُثبت المثل علميًا أخيرًا.
استخدم فريق بحث من جامعة نورث ويسترن النظرية الإحصائية والفيزيائية لتأكيد فرضيات العالم هيدر. توصل الفريق في النهاية بمساعدة كبير مؤلفي هذه الدراسة إشتفان كوفاتش إلى أن العالم هيدر كان مُحقًا.
ما نظرية التوازن الاجتماعي في الفيزياء؟
يكمن النمو الرئيسي لنظرية التوازن الاجتماعي في الوصول إلى التوافق المعرفي الذي يُعد خطوة مهمة تجاه التوازن النفسي. يسعى الأشخاص جاهدين لخلق توافق في علاقاتهم الشخصية، وعندما تخرج هذه العلاقات عن إطار الأربع قواعد التي وضعها العالم هيدر، يحدث اضطراب حتى يجد الشخص طريقة لاستعادتها، وذلك بتغيير مشاعره تجاه أحد العناصر الأساسية المكونة للمعادلة.
إذا كان الشخص مثلًا يحب شخصًا مشهورًا ووجده يدعم منتجًا لا يحبه، سيكون رأيه تجاه كلًا من الشخص والمنتج غير محدد، ومن ثم يؤدي ذلك إلى التنافر المعرفي، هذا حتى يقرر الشخص إما أن المنتج ليس سيئًا، وإما أنه في الواقع لا يحب هذا الشخص المشهور، وهذا يعيد التوافق مرة أخرى.
وفقًا لمؤلف الدراسة الأكبر إشتفان كوفاتش: «يمكن اعتبار التوازن الاجتماعي في مجموعة من الأشخاص، عادةً ما يكون ثلاثة أشخاص على الأقل يُشكّلون مثلثًا، إذ توضح الروابط فيما بينهم مشاعر العلاقات بين بعضهم بعضًا، سواءً كانت إيجابية أو سلبية».
أوضح كوفاتش أكثر قائلًا: «يظهر التوازن إذا كانت جميع العلاقات إيجابية أو حتى عندما تتوازن علاقتان سلبيتان مع علاقة إيجابية واحدة، إذ تؤدي الحالات الأخرى إلى مثلثات غير متوازنة، ما يسبب التوتر أو الإحباط».
العمل السابق على النظرية
رغم السعي الكثير من الباحثين لإثبات هذه النظرية بالاستعانة بعلم الشبكات والرياضيات، فإن جهودهم غالبًا لا تحقق النجاح الكامل، وذلك نتيجة التعقيدات التي تحملها الشبكات الاجتماعية، التي تنحرف غالبًا عن مفهوم العلاقات المتوازنة (كما تنص النظرية).
لذلك، يكمن جوهر المسألة في تحديد: هل الشبكات الاجتماعية تُظهر درجة أعلى من التوازن مقارنةً بالذي يمكن توقعه وفقًا لنموذج شبكة مناسب أم لا؟ مع ذلك، أُثبتت معظم نماذج الشبكات القائمة حاليًا أنها في غاية البساطة بحيث لا يمكنها استحواذ علاقات البشر المعقدة على نحو كافٍ، وذلك أدى إلى نتائج متناقضة.
استطاع فريق جامعة نورث ويسترن التغلب على هذا التحدي بدمج عنصرين أساسيين في إطار هيدر الاجتماعي لكي يعمل بفعالية. في سيناريوهات الحياة الواقعية، ليس كل الأشخاص على دراية ببعضها بعضًا، ويختلف الأفراد في إيجابياتهم تجاه الآخرين.
رغم إدراك الباحثين منذ فترة طويلة تأثير كلا العاملين على الروابط الاجتماعية، فيمكن للنماذج الحالية أن تحتوي على عامل واحد فقط في كل مرة. يتم ذلك بدمج كلا العائقين في الوقت نفسه، وقد أثبت النموذج الشبكي الناتج من تطوير الباحثين أخيرًا النظرية التي دُرست بعد مرور ما يقرب من ثمانية عقود من اقتراح هيدر الأول.
يقول كوفاتش: «بصفتنا علماء فيزياء، أثارت جائزة نوبل لعام 2021 اهتمامنا الأول، التي مُنحت لجورجيو باريزي الذي يدرس الأنظمة الفيزيائية المعقدة، وشارك فيها سيوكورو مانابي وكلاوس هاسلمان العاملين في نمذجة المناخ».
يذكر كوفاتش أنه في دراسات باريزي، قد تؤدي التفاعلات التنافسية التي تحدث بين اللّفات إلى وجود تكوينات غير قادرة على الحد من جميع التفاعلات الزوجية في الوقت نفسه، ما ينتج عنه إحباط متأصل.
يُصرّح أيضًا أن الأنظمة الاجتماعية قد تُظهر أحيانًا إحباطات مشابهة، فقد تخلق العلاقات الشخصية والسلوكيات المتناقضة حالة من عدم التوازن أو القلق داخل الشبكة الاجتماعية.
أضاف كوفاتش قائلًا: «إننا نرى أنه من المثير للاهتمام أن نجمع الآراء والأدوات من الفيزياء الإحصائية ومجموعة البيانات الكبيرة بشأن الأنظمة الاجتماعية الحقيقية».
البحث الذي أجراه فريق كوفاتش
للتحقيق في هذه المشكلة، أعان الفريق انتباهه إلى أربع قواعد بيانية شبكية كبيرة جمعها سابقًا علماء الاجتماع، وتشمل هذه القواعد:
- التعليقات التي قُيمت على موقع الأخبار الاجتماعية “Slashdot”.
- التبادلات بين أعضاء الكونجرس في قاعة المجلس.
- التفاعلات بين متداولي البيتكوين.
- تقييمات المنتج على موقع تقييم الاستهلاك “Epinions”.
ابتعد الباحثون في نموذج الشبكة عن توزيع قيم عشوائية للحواف سواءً كانت هذه القيم سلبية أو إيجابية. في سيناريو عشوائي حقيقي، سيكون لكل عقدة إمكانية متساوية لمواجهة بعضها بعضًا. مع ذلك، لا تلتزم الشبكات الاجتماعية في الحياة الواقعية بهذا التطابق، فليس كل شخص على دراية بالآخرين في شبكته.
لتعزيز مصداقية نموذجهم، ابتكروا نهجًا إحصائيًا لتخصيص القيم الإيجابية أو السلبية اعتمادًا على احتمال حدوث مثل هذه التفاعلات. ضمن هذا النهج إعاقة العشوائية داخل قيود قد فرضتها توبولوجيا الشبكة. إضافةً إلى ذلك، دمج الفريق فكرة أن بعض الأشخاص أكثر لطافة من غيرهم، ما يؤدي ذلك إلى احتمال أعلى للتفاعلات الإيجابية ومواجهات عدائية أقل.
بدمج هذين القيدين، بيّن النموذج الناتج التوافق المستمر مع نظرية التوازن الاجتماعي في الفيزياء التابعة للعالم هيدر عبر الشبكات الاجتماعية الكبيرة. إضافةً إلى ذلك، كشف النموذج عن أنماط تمتد إلى أكثر من ثلاث عُقَد، ما يشير إلى قابلية تطبيق نظرية التوازن الاجتماعي على الجرافيتات الأكبر حجمًا التي تشمل أربع عقد أو أكثر.
التطبيقات العملية
يحمل هذا الإطار المبتكر قدرة كبيرة على تعزيز مستوى فهمنا للديناميكيات الاجتماعية، التي تتضمن ظواهر مثل الاستقطاب السياسي والعلاقات الدولية. إضافةً إلى ذلك، قد يُطبق على أي نظام يتسم بمزيج من التفاعلات الإيجابية والسلبية، مثل الشبكات العصبية أو تركيبات الأدوية.
وفقًا لما يقوله كوفاتش، هناك طريقة واحدة لفهم كيف تُطبق هذه النظرية في الحياة الحقيقية، وهي من خلال [التفكير في خيارين يحتاج الناس إلى الاختيار منهما]. يتشارك الأصدقاء الرأي نفسه، وسيبقى الأعداء في جوانب مختلفة، مثل هذا الموقف المثالي الذي لا يمكن أن يحدث إلا في المثلثات المتوازنة.
وفقًا لنظرية التوازن الاجتماعي في الفيزياء، يبذل الناس جهودهم لتخفيف التوتر للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، إذ تساعد هذه النظرية على فهم دوافعنا في إقامة التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد.
يؤكد كوفاتش أنه عندما يأتي الأمر إلى التطبيقات داخل الشبكات العصبية البشرية، فإن الخلايا العصبية تنقل إشارات مثيرة أو مثبطة.
يوضح أيضًا أن النموذج قد يستفيد من بيانات الشبكة العصبية المعروفة والفرضيات الأولية عن الطبيعة المثيرة أو المثبطة لبعض الخلايا العصبية لاستنتاج الخصائص المحتملة من الاتصالات المشبكية المتبقية.
قد يقدم هذا النموذج أيضًا أفكارًا قيّمة لمعرفة: هل اقتران دوائين يزيد من فعالية علاج أمراض معينة أم لا؟
في حين أن دراسة الشبكات الاجتماعية قد قدّمت أساسًا مثاليًا للاستكشاف، فإن المؤلفين لن يقفوا عند ذلك الحد، بل سيوسعون تحقيقاتهم إلى ما هو أبعد من التفاعلات بين الأصدقاء والتعمق في شبكات أخرى معقدة.
نُشرت هذه الدراسة في مجلة Science Advances.
اقرأ أيضًا:
مختبر سيرن يشحن أقوى محطم ذرات في العالم بحثًا عن فيزياء جديدة
نظرية التجميع: نظرية قد تحل كل ألغاز الكون وتدمج الفيزياء بالتطور
ترجمة: أميرة عادل
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: هادية أحمد زكي