ما هي طبيعة الواقع الأساسية؟ هل الزمكان -البُعد الرابع المكون لكوننا- ناعم عند أصغر المقاييس؟ وإلا فما طبيعته الأخرى؟ قد يبدو القياس مستحيلًا، لكن مع دقة التليسكوبات المتطورة التي تبلغ مليارات السنين الضوئية، تمكن الباحثون من النظر بعمق.
النسيج الأساسي
تُعَد نظرية النسبية العامة لأينشتاين الطريقة الوحيدة لفهم الجاذبية، ومن طريق التشابك المعقد للرياضيات، توصلنا لمفهوم (الزمكان)، وهو بنية رباعية الأبعاد (ثلاثة أبعاد للمكان وبُعْد للزمن) تُشكل معًا نسيجًا واحدًا.
وفقًا للنسبية، تنثني المادة والطاقة وتشوهان نسيج الزمكان، واستجابةً لذلك، يقود الانثناء والتشوه كلًا من المادة والطاقة إلى كيفية التحرك، وتلك هي (الجاذبية).
كي تعمل رياضيات النسبية العامة، يجب أن يكون نسيج الزمكان ناعمًا تمامًا عند أصغر المقاييس. بصرف النظر عن مدى التكبير، يكون الزمكان خاليًا من التجاعيد تمامًا مثل قميص مكوي. لا ثقوب، لا تمزقات، لا تشابك. فقط نعومة نقية خالصة. دون هذه النعومة، تنهار رياضيات الجاذبية ببساطة.
لكن النسبية العامة ليست الشيء الوحيد الذي يخبرنا عن الزمكان، فلدينا أيضًا ميكانيكا الكم (والنظرية الأحدث: نظرية المجال الكمي). في عالم الكم كل ما هو مجهري تحكمه الصدفة والاحتمالات العشوائية، قد تظهر الجسيمات وتختفي في لحظة. قد ترتج الحقول وتهتز بإرادة خاصة بها، لا شيء مؤكد.
أشار الفيزيائي جون ويلر سنة 1960 إلى أننا إذا أردنا أن نبلغ أصغر مقياس ممكن (ما يُعرَف بمقياس بلانك)، فيجب ألا يبدو الزمكان بهذه النعومة، بل يجب أن يكون في حالة من الفوضى والغليان، حساء غاضب من الجسيمات، يصنع ثقوبًا باستمرار في الزمكان ويصلحها مرةً أخرى قبل أن يلاحظها أحد في العالم المجهري.
إما أن تكون النسبية العامة صحيحة وأن الزمكان نسيج سلس، أو أن تكون ميكانيكا الكم صحيحة حيث الزمكان نسيج متكتل، وقد تكون وجهتا النظر كلتاهما صحيحة. يعتقد الفيزيائيون أن الجواب النهائي يكمن في مزيج من الإثنين، أو ما يُسمى الجاذبية الكمية. ولا تبدو هذه الإجابة نهائية، إلا إذا استطعنا اختراق الزمكان والنظر إلى أصغر المقاييس، حينئذ فقط يمكننا الحصول على بعض الأدلة حول ما يحدث حقًا.
إذا كان الزمكان متموجًا متكتلًا، فيجب أن يؤثر ذلك في أي شيء يمر عبره. مثلًا، إذا اصطدم شعاع ضوئي منساب بجميع أنواع التكتلات المجهرية والعوائق، سيكون مساره متلكئًا أكثر من كونه سلسًا.
أحيانًا يعطي هذا التصادم دفعةً للضوء، ويرفع مستوى طاقته، وفي أحيان أخرى يمثل التصادم عائقًا، ما يبطئ سرعته. محصلة التأثير أن الضوء المندفع عبر مسار زمكان متموج ستنتشر طاقته ببطء.
هذا التأثير دقيق لدرجة لا تُصدق، حتى أنه من المستحيل قياسه في المختبر. لكن لحسن الحظ، تستطيع الطبيعة أن توفر لنا مختبرًا. إذا استطعنا العثور على شعاع ضوئي منساب ومتماسك في الفضاء (أي: ليزر فضائي طبيعي)، وانتقل عبر مليارات السنين إلى مراصدنا، قد يُمَكِّننا قياس انتشار الطاقة من التوصل إلى طريقة لتقدير مدى تموج نسيج الزمكان.
هذا هو بالضبط ما فعله فريق من علماء الفلك، نُشرت نتائجهم في الإصدار الشهري للجمعية الفلكية الملكية، وعلى موقع arXiv. في مصادفة مثالية، درس الفريق نسيج الزمكان باستخدام (إسبرسو). ولا نعني بذلك المشروب بالتأكيد، بل مطياف الكواكب الصخرية الخارجية والملاحظات الطيفية المستقرة، وهو أداة مثبتة على تلسكوب المرصد الأوروبي الجنوبي الكبير.
كما يوحي الاسم، لم يُصمَّم (إسبرسو) للبحث في نسيج الزمكان، ومع ذلك تبين أنه أفضل أداة لهذه المهمة، إذ وجهه الفلكيون إلى مصدر مثالي: سحابة غاز تدور على بعد 18 مليار سنة ضوئية، وما يجعلها مفيدة خصوصًا حقيقتان، أولًا وجود مصدر للضوء خلفها مباشرةً، وثانيًا وجود حديد في السحابة يمتص ضوء الخلفية عند طول موجي محدد للغاية.
من وجهة نظرنا على الأرض، إذا كان الزمكان سلسًا تمامًا، فيجب أن تكون هذه الفجوة في ضوء الخلفية التي تسببها سحابة الغاز ضيقةً كما لو كانت السحابة أمامنا مباشرةً. أما إذا كان الزمكان متكتلًا، فسوف ينتشر الضوء المُنتقل عبر مليارات السنين الضوئية، مُغيرًا اتساع الفجوة.
لم يجد الفلكيون أي إشارة إلى تكتل الزمكان، لكن هذا لا يعني أنه غير موجود، بل قد يعني أننا بحاجة إلى أكثر من 18 مليار سنة ضوئية لملاحظته باستخدام تقنياتنا الحالية. لكن النتائج كانت قادرة على استبعاد بعض نماذج الجاذبية الكمية، وإقصائها من التاريخ الفيزيائي تمامًا.
قد تجد تجربة مستقبلية علامةً على تكتل الزمكان، عندها ستكون نافذتنا الأولى على عالم الجاذبية الكمية، وهو أمر يبحث عنه علماء الفيزياء منذ الخمسينيات. وقد يُكشَف كل ذلك من طريق سحابة غاز عشوائية.
اقرأ أيضًا:
ميكانيكا الكم – هل ترهق فيزياء الكم ذهنك؟ اليك هذه المقالة
إشعاع الجسم الأسود و الكارثة الفوق بنفسجية
ترجمة: أماني مرشد
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: أكرم محيي الدين