أثبت النجم إس 2 الذي يدور حول الثقب الأسود الفائق في مركز مجرتنا تنبؤات للنسبية العامة في أقصى بيئة يمكننا اختباره بها، تاركًا برهانًا آخر يدعم صحة النظرية. جامعين بذلك نتائج عقود من الأبحاث، أثبت علماء الفلك أن مدار النجم إس 2 ليس إهليجيًا بشكل منتظم؛ بل وعوضًا عن ذلك، يتغير المدار كالرسم السبيروجرافي، في ظاهرة تعرف باسم مبادرة شوارزشيلد.
هذه هي المرة الأولى التي تُرصد بها مبادرة شوارزشيلد حول ثقب أسود فائق الضخامة، ما يدل على أن الظاهرة صحيحة حتى عند تتبعنا لمدارات نجوم في بيئة شديدة الجاذبية.
تبعًا لذلك، يمكن استخدام معادلات النسبية العامة للتنبؤ بدقة بالتغيرات المدارية، كما طابقت هذه الحسابات تمامًا ما لوحظ على النجم إس 2.
أوضح عالم الفيزياء الفلكية، العضو في تعاون جرافيتي، رينهارد جينزيل من معهد ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض: «تتنبأ النسبية العامة لآينشتاين بأن المدارات المقيدة لجسم ما حول جسم آخر ليست مغلقة، كما هو الحال في جاذبية نيوتن، بل تبادر نحو الأمام في مستوى الحركة».
«هذا التأثير المعروف، والذي رصدناه للمرة الأولى في حركة دوران كوكب عطارد حول الشمس، كان الدليل الأول لصالح النسبية العامة، بعد مئة عام من ذلك قمنا برصد نفس التأثير في حركة نجم يدور حول المصدر الراديوي الهائل “الرامي أ*” في مركز درب التبانة».
يدور النجم إس 2 حول الرامي أ* في مدار إهليجي طويل مرة كل 16 عامًا، في أدنى اقتراب له، أي مرحلة الحضيض، يكون على بعد 17 ساعة ضوئية من الثقب الأسود، أو ما يعادل 4 مرات المسافة بين الشمس ونبتون.
قد يبدو ذلك بعيدًا، ولكن حين نتعامل مع شيء هائل كالرامي أ*، فهو قريب بشكل مذهل، كما أن اندفاع الجاذبية الناتج عن الثقب الأسود تسرع حركة النجم لما يقارب 3% من سرعة الضوء حين يواجهه. إنه أحد أقرب النجوم المدارية في مركز المجرة.
هذه ليست المرة الأولى التي يسند بها النجم إس 2 بالنسبية، إذ تابع علماء الفلك النجم عن كثب منذ تسعينيات القرن الماضي، وفي العام 2018، أوضح تعاون جرافيتي أن الطريقة التي يتمدد بها الضوء الصادر عن النجم إس 2 عند اقترابه من الرامي أ* تعد تأكيدًا لتأثير تنبأت به النسبية العامة في واحدة من أكثر اختباراتها بُعدًا حتى اللحظة. في العام التالي، أكد فريق آخر هذه النتائج بورقة بحثية، سُجلت باستعمال مجموعة من ملاحظاتهم الخاصة.
أما الآن، فقد استعمل تعاون جرافيتي ما يزيد عن 330 قياسًا يعود تاريخها للفترة الممتدة بين العامين 1992 ونهاية 2019 للتحقق ما إذا كانت المبادرة المسجلة تتوافق مع تنبؤات النسبية العامة، وقد أظهرت النتائج على نحو مفاجئ توافقًا تامًا.
قال عالم الفيزياء الفلكية ستيفان جيليسين من معهد ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض: «بعد متابعة النجم في مداره على مدى عقدين ونصف العقد، ترصد قياساتنا المكثفة بقوة مبادرة شوارزشيلد في مساره حول الرامي أ*».
لكن الأمر لا ينتهي هنا، فحساب مبادرة النجم إس 2 يتطلب معرفة دقيقة بكتلة الرامي أ*. حتى اللحظة، تشير الأدلة لكتلة تبلغ حوالي 4 ملايين مرة كتلة الشمس. حتى يتوافق المدار المرصود مع الحسابات، فإن معادلات النسبية العامة تتطلب كتلة تبلغ أيضًا حوالي 4 ملايين مرة كتلة الشمس.
يُعد هذا تأكيدًا آخرًا لكتلة الرامي أ*، ما يتيح الفرصة أمام علماء الفلك لدراسة الفضاء المحيط بالمدار أيضًا. على سبيل المثال، في حال ظهور جسم هائل آخر كثقب أسود متوسط الكتلة، أينما يكون قريبًا سيظهر تأثيره على المدار. عدم عثورنا على هذه التأثيرات المدارية يعني أنه يمكننا توثيق ما يوجد في مركز المجرة.
قال عالما الفيزياء الفلكية جاي بيرين وكارين بيراوت من مرصد باريس-ميدون ومرصد جرينوبل في فرنسا: «نظرًا للتوافق التام بين قياسات النجم إس 2 والنسبية العامة، يمكننا الآن وضع معايير قاطعة عن مدى وجود المادة غير المرئية كالمادة المظلمة أو حتى عن احتمالية وجود ثقوب سوداء صغيرة حول الرامي أ*. وهذا أمر غاية في الأهمية لفهم كيفية تشكل الثقوب السوداء ومراحل تطورها لثقوب سوداء فائقة».
كل هذه الاستنتاجات ناتجة عن أبحاث نجم واحد فقط، هذا مذهل!
اقرأ أيضًا:
إثبات جديد للنسبية العامة عبر قياسات النجوم النابضة في الفضاء
ما هي الأدلة على صحة النظرية النسبية ؟
ترجمة: حمزة البدارنة
تدقيق: رزوق النجار