عادةً ما يتجادل المؤرخون بشأن هوية مخترعي أهم الاختراعات، فمن اخترع الهاتف؟ هل هو ألكسندر غراهام بل أم إليشا غراي؟ ومن اخترع الراديو؟ ماركوني أم تسلا؟ ومن اخترع الطائرة؟ وايتهيد أم الأخوان رايت؟ وتستطيع إضافة اختراع رقائق البطاطس إلى هذه القائمة.
أكثر القصص التي تتناول أصل رقائق البطاطس شهرة تذكر «مونزليك هاوس» وهو مطعم شهير في منتجع ساراتوغا سبرينغز في نيويورك، لكن حتى هناك يتصارع على لقب المخترع خمسة أشخاص، مع أن مؤرخي الطعام يرون أن رقائق البطاطس لم تُخترع في ساراتوغا على الأرجح، بل ربما لم تكن اختراعًا أمريكيًا أصلًا.
قصة ساراتوغا
تروي أشهر أسطورة عن رقائق البطاطس التالي: في أحد أيام 1853 كان بارون الشحن وسكك الحديد كورنيليوس فانديربلت يتناول طعامه في مطعم مونزليك هاوس، فلم تعجبه البطاطس المقلية التي قُدِّمت إليه، فأعادها إلى المطبخ طالبًا بطاطس مقطعة إلى شرائح أرقّ، فامتعض من طلبه الطاهي الأمريكي إفريقي الأصل جورج كروم وقطّع بعض البطاطس -غاضبًا- إلى شرائح رفيعة جدًا، وقلاها حتى أصبحت هشة -مقرمشة- وقدمها إلى فانديربلت، ليُفاجأ بأن الأخير قد أعجبته الشرائح، وهكذا جاءت رقائق البطاطس إلى عالمنا.
ترسخت هذه القصة في الأذهان بمرور الوقت حتى أن مجلة «التراث الأمريكي» أطلقت على كروم -المعروف بلقب جورج البطاطس أيضًا- لقب «أديسون الدهن».
لكن تشوب هذه القصة بعض المشكلات، منها أن لو وُجد زبون ممتعض في المطعم فمن الصعب جدًا أن يكون فانديربلت «فليس للقصة أي مصداقية» حسب استنتاج المؤرخ ستايلز في السيرة -الحائزة على جائزة بوليتزر- التي كتبها، بعنوان «ملك المال الأول: حياة كورنيليوس فانديربلت الأسطورية»، ومنها أن دور كروم المزعوم في اختراع رقائق البطاطس مر مرور الكرام إبان حياته، مع أن كروم نفسه كان معروفًا بإنجازاته الأخرى عبر الولايات الأمريكية، فاحتُفي بأطباق سمك السلمون وقاروس البركة ودجاجة الأرض والحجل التي عملها، إضافةً إلى أطباق أخرى، حتى أنه ربما كان أول طاهٍ مشهور على نطاق واسع في أمريكا.
عدَّ كاتب في صحيفة «نيويورك هيرالد» كروم «أفضل طاهٍ في البلاد» سنة 1889، لكنه لم يذكر كلمة واحدة عن البطاطس، ومعظم ما كُتِب في نعيه سنة 1914 لم يذكر رقائق البطاطس قط، أما القليل الذي ذكرها فلم يتجاوز التصريح بأن كروم «يُقال إنه» اخترعها.
بعد ثلاث سنوات ورد في نعي كاثرين آدكنز ويكس -توفيت وعمرها 103 سنوات- أنها هي التي «اخترعت رقائق البطاطس، كما يُقال»، وويكس هي أخت كروم وقد عملت معه في المطبخ وعُرفت بوصفها الخالة كايت أو الخالة كاتي، وجاء في إحدى روايات الزبون الممتعض أنها هي -لا كروم- مَن جعلت شرائح البطاطس برقة الورقة عندما غضبت من امتعاض الزبون، وجاء في رواية أخرى أنها أوقعت -بالخطأ- شريحة رقيقة من البطاطس في قدر الزيت المغلي حين كانت تقشر البطاطس، فأخرجت الشريحة بشوكة وعندها اكتشفت أنها ابتكرت طعامًا جديدًا هو رقائق البطاطس.
لم يكن كروم وويكس الوحيدين اللذين نُسب لهما الاختراع بعد وفاتهما، ففي سنة 1907 نُشر في نعي لحيرام توماس أنه هو «مُخترع رقائق ساراتوغا»، وتوماس هو فندقي محترم أُشير إليه بوصفه «مساويًا لبوكر واشنطون» إذ كان من أشهر الأفارقة الأمريكيين في المنطقة، وقد أدار توماس مطعم مونزليك هاوس نحو عقد من الزمان، لكن ذلك كان في تسعينيات القرن التاسع عشر، أي بعد 40 سنة من اكتشاف كروم -أو ويكس- وبعد عشر سنوات من انتشار رقائق البطاطس تجاريًا خارج ساراتوغا.
إضافةً إلى ذلك نُسب الاختراع إلى إميلي جونز أيضًا بعد وفاتها في نعيها، وهي طاهية غنية شهيرة متنفذة في مدينتي نيويورك وواشنطن العاصمة، وكانت جونز -أيضًا- سمراء عملت في مطعم مونزليك هاوس بإشراف حيرام توماس في بداية حياتها المهنية، ومن المحتمل أنها قد تعلمت طريقة صنع رقائق البطاطس هناك، لكن من غير المرجح أنها كانت موجودة عند اختراعها.
وفقًا لستايلز فإن رقائق بطاطس «ليك هاوس» تسبق حتى كروم وويكس، ففي مقال آخر نشرته جريدة نيويورك هيرالد يعود لسنة 1849 تذكر «شهرة الطاهية إليزا لصناعتها البطاطس الهشة المقرمشة»، ويضيف المقال إن عشرات الناس يزورون «البحيرة» ويحملون معهم عند العودة عينات من الخضراوات التي أعدتها من باب الفضول»، ولسوء الحظ أضاع التاريخ اسم إليزا الأخير مثلما أضاع أي معلومة أخرى تخصها.
هل تعلم؟ يُقدّر أن نحو 5 ملايين كيلوغرام من رقائق البطاطس تُستهلك في يوم إقامة السوبر بول -نهائي كرة القدم الأمريكية- في الولايات المتحدة.
بصرف النظر عن مدى صحة اختراع رقائق البطاطس في ساراتوغا سبرينغز، فإن البلدة ساهمت كثيرًا في نشرها، حتى أن الرقائق عُرفت سنوات طويلة باسم رقائق ساراتوغا، وما تزال تُباع حتى اليوم بهذا الاسم.
كانت رقائق ساراتوغا -في البداية- طعامًا للذواقة فقط، لا يُقدم إلا في الفنادق والمطاعم الراقية، كتقديمها في فندق كاديلاك في ديترويت مع سلطة الدجاج والحساء، وتقديمها لركاب سفينة بيرينغاريا الفخمة مع الدجاج المشوي، واستطاعت العائلات الثرية التي أتقن طهاتها فن صناعة الرقائق تقديمها بأناقة في صحن فضي مخصص يشترونه من شركة تيفاني الراقية.
أما بيع الرقائق المصنّعة المقدَّمة في كيس ورقي بوصفها وجبة خفيفة طازجة، فقد كان عملًا محليًا صعب الانتشار لسرعة انتهاء صلاحيتها وعدم إمكانية حفظها فترة طويلة، وكان هذا هو الحال حتى ثلاثينيات القرن العشرين حين بدأت شركتان هما ليز وفريتوز -والأخيرة صنعت رقائقها من الذرة لا البطاطس- صعودهما وأصبحتا علامتين تجاريتين على المستوى الوطني، بصناعة الرقائق بكميات كبيرة وتوزيعها في أنحاء البلاد، وبمرور الوقت أصبحت الرقائق معروفة عالميًا حتى وصلت قيمة صناعة رقائق البطاطس في أمريكا فقط إلى 10 مليارات دولار.
هل الطبيب البريطاني هو المخترع الحقيقي؟
لكن إن لم تُخترع رقائق البطاطس في ساراتوغا أصلًا، فمن أين أتت؟ يرى مؤرخو الطعام أن عليهم العودة إلى سنة 1817 حين نشر طبيب بريطاني اسمه وليام كيتشنر النسخة الأولى من كتاب الطبخ الرائد «عرّافة الطاهي» الذي نُشر في نسختين، بريطانية وأمريكية. وكانت إحدى الوصفات بعنوان «شرائح البطاطس المقلية» الذي يُذكِّر كثيرًا برقائق البطاطس اليوم، وفي النسخ التالية أشار الكتاب إلى الوصفة تحت عنوان «البطاطس المقلية في شرائح رقيقة جدًا».
ربما كان كيتشنر أول من نشر وصفة طهي رقائق البطاطس، لكن ذلك لا يعني أنه هو من اخترعها، ففي الواقع يبدو من المرجح أن رقائق البطاطس قد اختُرعت وأعيد اختراعها مرارًا بواسطة عدد لا يُحصى من الطهاة على مدى قرون، إن تذكرنا انتشار البطاطس الكبير في أنحاء العالم.
إن السؤال عن هوية مخترع رقائق البطاطس -من وجهة نظر المهتمين بأكل الوجبات الخفيفة- ربما كان غير مهم، فالمهم عندهم أن أحدهم قد اخترعها وانتهى الأمر!
اقرأ أيضًا:
ما هو أصل البطاطا أو البطاطس ؟
فيلم The Martian كان محقا زراعة البطاطا على المريخ ممكنة
ترجمة: الحسين الطاهر
تدقيق: أكرم محيي الدين