من الجائز لنا أن نطرح تساؤلات حول جدوى اعتماد التفسيرات التي تقدمها لنا نظريات الفيزياء النظرية المعاصرة, كنظرية الانفجار العظيم و الأوتار الفائقة و الأكوان المتوازية و غيرها في فهم حقيقي للواقع , فقد دأبت الفيزياء دائما على اعتماد المنهج التجريبي لإثبات النظرية و كمعيار تحقق لها , و مع ذلك أثبتت الفيزياء النظرية المعاصرة باعتمادها على المنهج الفرضي الاستنتاجي نجاحاً في تفسير الواقع من خلال اتساق نظرياتها و احتوائها للمعطيات الجديدة ضمن تفسيراتها و فرضياتها الأساسية , و مع ذلك فالنقاش حول مدى صحة اعتمادها كما هي في مناهجها النظرية أو ضرورة الانتقال لمنهج تجريبي للتحقق من نظرياتها كانت مثار نقاش مطوّل , و قد أخذت النقاشات في دوائر الفيزياء هذا العام منحى آخر , جرّاء الصعوبات في تطبيق النظريات الأساسية على الكون المنظور , حتى أن بعض الباحثين دعى إلى تغيير الآلية التي تسير بموجبها الفيزياء المعاصرة , كما شرع بعض الفيزيائيين بالقول أنه إذا كانت النظرية تفسيرية بما فيه الكفاية فلا يلزم أن تخضع للاختبار التجريبي , محدثين بذلك قطيعة مع قرون كاملة من التعريف الفلسفي التقليدي لمفهوم المعرفة , إلا أن مدعاة الاختلاف مع وجهة النظر تلك هي كما عبر عنها فيلسوف العلم كارل بوبر : أن النظرية كي تكون علمية يجب أن تكون قابلة للتفنيد , كما أن بعض علماء الكون يسعون أيضاً للتخلي عن التحقق التجريبي في المجالات الكبرى غير القابلة للملاحظة الحسية كنظرية الأكوان المتوازية أو العوالم المتعددة و المفاهيم القبلية لنظرية الانفجار العظيم .
هذه الفرضيات غير قابلة للإثبات و تختلف تماماً عن تلك التي تتصل مباشرة بالعالم الحقيقي ونظرياته القابلة للاختبار من خلال الملاحظة , على سبيل المثال : النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات , أو وجود المادة المظلمة .
أما منشأ الخطورة في الفيزياء النظرية فهي غياب الأرضية التي تفصل بين الفيزياء و الرياضيات و الفلسفة و التي لا تفي بمتطلبات أي منها .
وقد ظلت قضية القابلية للاختبار مثار جدل لعقد من الزمن , و تم توجيه النقد لنظرية الأوتار الفائقة و الأكوان المتعددة في الكثير من الكتب و المقالات , بما فيها مقال الفيزيائي باول ستينهار في مجلة الطبيعة , و التي يقول بها أن نظرية التمدد الكوني لا تعد علمية بما فيه الكفاية لأن بها من المرونة ما يجعلها تستوعب أي نتيجة جديدة يتم رصدها .
أما ريتشارد داود و شون كارول فقد قاوما هذا الانتقاد بواسطة حجة فلسفية من شأنها إضعاف مطلب قابلية التجربة و الذي يشكل جوهر الفيزياء .
ويبدو أنه من المستحسن أن يجلب هؤلاء العلماء و غيرهم مثل تلك المعضلات إلى العلن , لأن هذه المعركة تمس روح الفيزياء المتفتحة على النتائج العلمية جميعها بدءاً من تغيرات المناخ و حتى نظرية التطور , و التي يتم التساؤل حولها من قبل رجال السياسة و الدين على حد سواء .
إلَا أن الضرر المحتمل حصوله بالنسبة لثقة الجماهير بالعلم وجوهر الفيزياء يمكن تفاديه من خلال إقامة حوار أعمق بين العلماء و الفلاسفة .
لنأخذ مثالاً على ذلك , نظرية الأوتار الفائقة : فمن حيث المبدأ يمكن اختبار بعض الجوانب النظرية تجريبياً , حيث يرى داود أن صحة نظرية الأوتار الفائقة يمكن أن يتأسس من خلال الحجج الفلسفية والاحتمالات الناجمة خلال عملية البحث , و إن الطريقة الإحصائية لاستنتاج احتمال وجود تفسيرات تناسب مجموعة من الحقائق , فهذا مما يزيد من احتمالية أن تكون النظرية صحيحة و قابلة للتطبيق .
لكن هذه الزيادة في الاحتمالية قد تكون نظرية محضة بسبب غياب البدائل , و بالتال فالنظريات دون بدائل تميل لأن تكون أكثر قابلية للتطبيق , و هنا يرى داود أنه لا بد من إيراد أسباب تجعل من نظرية الأوتار الفائقة نظرية صالحة .
خلاصة : يبقى معيار التحقق في الفيزياء النظرية المعاصرة محط أخذ و جذب بين أنصار التجريبية في الفيزياء و أنصار الاكتفاء بالمنهج الفرضي الاستنتاجي , و هذا يبدو اكثر شبها بالصراع الدائم بين العقليين و التجريبيين في ميدان الفلسفة , فهل انتقل ميدان هذا الصراع من الفلسفة إلى الفيزياء , أم أنه لا زال في حلّته الفلسفية إنما امتدّ بظلال إشكاليته المعرفيّة من ميدان الموضوعات الفلسفية إلى ميدان الموضوعات الفيزيائية ؟
تحرير : رغدة عاصي
