يستلطف الجميع الشخص الفكاهي، إذ تضفي الفكاهة بعض الروح على المواقف الملتبسة وتبرز الجوانب العبثية من الحياة، ما يخفف التوتر والضغط الاجتماعي ويحسن جودة الحياة عمومًا. ولكن، وراء كل هذه الدعابات يوجد إنسان يتوق إلى الفوز ببعض الضحكات بفارغ الصبر، إذن ما طبيعة هؤلاء الأشخاص؟ وكيف يكتسبون حس الفكاهة الذي يدفعهم إلى تخطي الحدود باستمرار فقط من أجل استثارة ردود الفعل من الآخرين؟ ما الذي يحفز الشخص الفكاهي؟ وكيف يدرك الأشخاص الفكاهيون ذواتهم؟
لطالما استُخدمت الفكاهة لمواجهة التوتر والحيرة، فمثلًا لجأ الأشخاص حول العالم خلال جائحة كوفيد-19 إلى نوافذهم وحمامات منازلهم وشرفاتهم ليظهروا صمود حس فكاهتهم في مواجهة مرض مميت، رغم شعورهم بالتوتر والعزلة بسبب الحجر الصحي. لاحقًا، تمكن القراصنة من جعل محطات الشحن الروسية تعرض عبارة «بوتين وغد» في خضم الحرب المدمرة في أوكرانيا.
علميًا، يُعد حس الفكاهة من سمات قوة الشخصية، إذ يبين علم النفس الإيجابي إمكانية استخدام الفكاهة لجعل الأشخاص يشعرون بحال جيدة أو لاكتساب الحميمية أو للمساعدة على تخفيف التوتر، لذا من المتوقع أن حس الفكاهة القوي قد يولد من ماضٍ معقد بوصفه وسيلةً للتأقلم، مع ذلك فهو لا يحمي بالضرورة الشخص الفكاهي من المعاناة النفسية الناجمة عن تجارب حياته في الماضي.
تضمن المسلسل الشهير (This Is Us) حلقةً تناولت أصول حس الفكاهة لدى شخصية المسلسل الكوميدية «توبي»، وكُشِف فيها أن توبي كان يستخدم حس الفكاهة في طفولته للاستجابة إلى حزن والدته، وأدت محاولته للتأقلم بهذه الطريقة إلى تحوله إلى شخص مضحك، لكنه مصاب باكتئاب حاد.
هذه ظاهرة معروفة، تُسمى «مفارقة المهرج الحزين»، وهي تفسر العلاقة بين حس الفكاهة لدى الأشخاص المضحكين على نحو استثنائي، والاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب.
قد يساعد التركيز على العلاقات الإيجابية في المراحل المبكرة من الحياة على تجنب مفارقة المهرج الحزين، إلا أن هذه الظاهرة تذكرنا أن حتى أصدقائنا الأكثر إضحاكًا قد يحتاجون أيضًا إلى من يحتوي أحزانهم.
أصول حس الفكاهة لدى الكوميديين:
درس سامويل جانوس وزملاؤه الذكاء والمستوى التعليمي والخلفية العائلية والشخصية لدى 69 كوميديًا، كانوا جميعًا مشهورين وناجحين. توصل جانوس إلى أن ذكاء الكوميديين يميل إلى أن يكون أعلى من المتوسط، لكنهم يشعرون بالغضب والقلق والريبة والاكتئاب، وغالبًا ما يُساء فهمهم ويهمهم الشعور بالقبول من الآخرين.
وجد جانوس أن المراحل المبكرة من حياة الأشخاص الفكاهيين تتسم غالبًا بالمعاناة والعزلة والشعور بالحرمان، وأنهم في معظم الحالات يتعلمون استخدام الفكاهة لمواجهة القلق والتعبير عن غضبهم المكبوت. غير أن العديد من الكوميديين كانوا أيضًا خجولين وحساسين ومتعاطفين، ويُتوقع أن نجاحهم الكوميدي يُعزى إلى قدرتهم على إدراك احتياجات جمهورهم ومخاوفه بدقة.
أجرى سيمور ورودا فيشر دراسة مضبوطة عن 43 كوميديًا محترفًا، وقيّما شخصياتهم وحوافزهم وذكريات طفولتهم، وفحصا السير الذاتية لـ 40 كوميديًا، منهم وودي آلن وجاكي غليسون وجيري لويس وبياتريس ليلي. استخدما كذلك اختبار بقع حبر «رورشاخ» واختبار إدراك المواضيع الاستنباطي (TAT) لمساعدتهما على تحديد مواضيع أفكار الكوميديين وما يشغلهم. تضمنت الدراسة أيضًا مجموعة ضبط من 41 ممثلًا محترفًا.
وجد سيمور ورودا فيشر أن الكوميديين لم يختلفوا عن الممثلين فيما يتعلق بالاكتئاب والصحة النفسية، ولكن تبين وجود بعض الفروقات بين المجموعتين، إذ نشأ أكثر الكوميديين من طبقات اجتماعية واقتصادية متدنية، وبرزت موهبتهم في الفكاهة منذ سن مبكرة، وتصرفوا غالبًا بوصفهم الشخص الفكاهي في المدرسة. دخل العديد من الكوميديين المجال الكوميدي احترافيًا من خلال اهتمامهم بالموسيقى.
اضطر الكوميديون المحترفون إلى تحمل مسؤوليات أكثر من الممثلين في مرحلة مبكرة من عمرهم، وكانوا كذلك أكثر ميلًا إلى وصف آبائهم بعبارات إيجابية، في حين وصفوا أمهاتهم بالصرامة والنقد العدواني وغياب الرعاية وانعدام الأمومة. اكتُشِفت هذه النتيجة أيضًا في عينة من الكوميديين المبتدئين، إذ تبين أن ميل الطلاب الجامعيين إلى الكوميديا يزداد كلما اعتبروا أمهاتهم صارمات، وآبائهم أكثر لينًا في وسائل تربيتهم.
أجرى ستيفن برازينوس وبينيت تيتلر دراسةً شملت 88 مراهقًا من فتيان الكشافة، ووجدا أن الفتيان الفكاهيين أكثر ميلًا إلى أن يكونوا منفصلين عن عائلاتهم، وأنهم يشعرون بأن أهلهم أقل ترابطًا وأكثر نزاعًا. استنتج الباحثان أن حس الفكاهة يمثل محاولة للشعور بالترابط مع الآخرين من بُعد. رجح الباحثان أيضًا احتمالية أن انفصال الأشخاص الفكاهيين عن ذويهم بهذه الطريقة هو ما يجعلهم مضحكين، إذ يتيح طرح منظور جديد.
طرحت دراسة فيشر تفسيرًا آخر للعلاقة بين تجارب المراحل المبكرة من الحياة ونشأة الكوميديين، إذ استند الباحثان إلى عمل ألفريد هيلبرون، الذي افترض أن الأشخاص الذين نشأوا مع أمهات صارمات وغير حاضنات أكثر ميلًا إلى الإصابة بالفصام. حدد هيلبرون صنفين من الأشخاص الذين نشأوا مع أمهات صارمات: النوع المنغلق والنوع المنفتح. يتسم النوع المنغلق بأساليب دفاعية مثل الانعزال عن التعاملات الاجتماعية والاكتئاب، في حين يتميز النوع المنفتح بالانبساط والتيقظ إلى وسائل الاستحواذ على القبول الاجتماعي، إذ يفحصون محيطهم دائمًا سعيًا لمعرفة ما يتوقعه الناس منهم.
ربط الباحثان فيشر النوع المنفتح بالكوميديين المشاركين في الدراسة، إذ زعما أن طريقة الشخص الكوميدي في التواصل مع الآخرين تعكس بعض تجاربه المبكرة مع الأم. تنص فرضيتهما على أن الكوميدي يصبح خبيرًا في قراءة أفكار والدته، ثم يتعلم كيف يفحص محيطه بطريقة دقيقة، باحثًا عن فرصة الفوز بالقبول والدعم الاجتماعي.
دوافع الأشخاص الكوميديين:
ما الذي يحفز الشخص الفكاهي؟ لاحظت دراسة فيشر أن الكوميديين المحترفين يظهرون تناقضًا في السمات، إذ افترض الباحثان أن التجارب المبكرة في حياة الشخص الكوميدي تعلمه عبثية الحياة، ثم يمضي حياته يلقي النكات لمساعدته على فهم عبثية موقفه.
يشير الباحثان إلى أن الفكاهة تتضمن في جوهرها اكتشاف الغموض والبحث عن معنى، وأن الكوميديين مهووسون بعدم الاستقرار، وهما يزعمان أن ميل الكوميديين إلى التقلب قد يمثل محاولتهم للهيمنة والسعي إلى التأقلم مع تهديد كان مؤلمًا بشدة في طفولتهم المبكرة.
استنتج الباحثان من مقابلاتهم مع الكوميديين المحترفين، ومن نتائج اختبار بقع الحبر، أنهم يميلون إلى إخفاء أنفسهم وراء سيل من النكات، إذ استحضر الكوميديون صورًا تعبر عن الحجب والإخفاء في اختبار بقع الحبر، وكانوا أميل إلى التعرف على الأشخاص الذين يرتدون أقنعة والمخلوقات المختبئة والأشياء التي لا يمكن تمييزها بسهولة بسبب الظلمة.
وجد الباحثان أيضًا أن غالبية الكوميديين في دراستهم كان لديهم شعور بالصغر، وأنهم يميلون إلى قول أشياء سيئة عن أنفسهم وأن تقديرهم الذاتي كان منخفضًا. يقول الباحثان إن شعور الكوميديين بالصغر قد يكون ناجمًا عن شعورهم بعدم الأهمية في مرحلة الطفولة، وهما يرجحان أن أسلوب الفكاهيين يستند غالبًا إلى تقليل الفارق بينهم والآخرين.
يقول الباحثان: «تنتشر الأساليب المتعلقة بالحجم في مصطلحات الفكاهيين وتعبيراتهم، إذ يميلون دائمًا إلى التصغير أو التكبير، وقلما يصفون الأشياء بأبعادها الحقيقية».
«قد يؤدي شعور الكوميديين بالصغر وقلة الثقة إلى مسار استثنائي، إذ تمثل المشاعر السلبية ركيزةً لتشكيل هوية الشخص وانطلاقه في مسار مستقل».
كيف يدرك الأشخاص الكوميديون ذواتهم؟
وجد الباحثان فيشر أن الكوميديين يعتبرون أنفسهم معالجين، إذ أظهر العديد من الكوميديين الاحترافيين تكريسًا للإيثار وحب الغير. يرى الكوميدي أن من واجبه جعل الأشخاص يرون الأحداث مضحكةً، لكن في الوقت ذاته، يرى الكوميديون الاحترافيون أن الفكاهة وسيلة للتحكم في الجمهور والهيمنة عليهم.
وجد الباحثان أن دور الشخص الكوميدي بوصفه المعالج الفكاهي يتوافق مع مراجعات أكاديمية عن تاريخ مهرجي القصور، إذ يؤدي الكوميدي المعاصر دورًا مشابهًا لمهرج القصر قديمًا، إذ يصور الكوميدي نفسه بأنه الشخص المضحك الذي يلقي النكات ويرفه عن الجمهور، وفي الآن ذاته، يطلق تيارات معارضة ويكشف الحقائق التي يحاول العديدون إخفاءها.
الخلاصة:
تشير البحوث إلى أن الفكاهة لدى الكوميديين المحترفين تمثل وسيلة دفاعية للتأقلم مع تجاربهم العائلية المبكرة وعبء مسؤولية الاعتناء بأنفسهم، ما قد يحفز الكوميدي على إضحاك الناس لاكتساب قبولهم وكذلك كشف عبثية الحياة لفهم حياتهم. غالبًا، تُعد الكتابة نوعًا من حل المشكلات، إذ يكتب العديد من الكتاب بدافع محاولة حل مشكلات حياتهم، بالمثل يستخدم الكتاب الكوميديون الفكاهة في كتابتهم لمساعدتهم على فهم أنفسهم والعالم بطريقة تجذب القارئ.
اقرأ أيضًا:
كيف يساعدنا حس الدعابة على مواجهة الأزمات؟
يبدأ الأطفال بتقدير حس الدعابة وفهم النكات بصورة مفاجئة في وقت مبكر!
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: لبنى حمزة