قد يبدو هذا التساؤُل سخيفًا للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة سؤال ذو أهميّة كُبرى، لأنه يُعَلّمُنا شيئًا مهمًا عن الكون. لنفترض أن الكون لا يتغير، ولا نهائي، وأزلي، وأنّ المجرات والنجوم مبعثرة عشوائيًا في رحابه المترامية. في مثل هذه الحالة سوف نرى سماء الليل مليئة بعدد لا نهائي -حرفيًا- من النّجوم والمجرّات، ولا فراغ بينها قط. لتوضيح ما أقصد لنتخيل أننا في غابة كثيفة الأشجار، عندها سوف نرى جذع شجرة في أي اتجاه ننظر فيه (الصورة رقم 1). هكذا أيضا إِذا كانت النجوم منتشرة عشوائيًا في الكون وعددها لا نهائي، عندها لن ترى أي نقطة معتمة في سماء الليل. لأن كل نقطة ننظر إليها على صفحة السماء سوف تصادف حتمًا أن يكون بها نجم وذلك لأننا فرضنا أن عدد النجوم لا نهائي وهي مبعثرة في كل مكان في الكون.
إذن نعود للسؤال الذي بدأنا به: لماذا سماء الليل معتمة؟ يُسمّى هذا التساؤُل باسم «مفارقة أولبرز» Olbers Paradox نسبة إلى هاوي الفلك الألماني ابن القرن التاسع عشر. في الحقيقة لم يكن أولبرز أوّل من فكر فيه، بل تعود جذوره إلى القرن السادس عشر، وممن سأل هذا السؤال يوهانس كبلر Johannes Kepler، صاحب القوانين الثلاثة لحركة الكواكب السيارة، و إدموند هالي Edmond Halley، الذي اكتشف مذنب هالي الشهير.
لكن حتى نفهم الضرورة لمثل هذا السؤال ونحلل المفارقة التي يحملها، علينا أن نحلل الفرضيات الأساسية من ورائه وهي أربع:
- الفرضية الأولى تتعلق بالمبنى الفراغي للكون، إذ إننا نفرض أنه لا نهائي الامتداد، بالضبط مثلما نتخيل الفراغ في هندسة إقليدس (الهندسة المستوية)، اوهي الهندسة التي تفرضها فيزياء نيوتن.
- الفرضية الثانية تتعلق بالزمن وبها نفرض أن الكون أزلي، أي أن الزمان لا بداية له، بالضبط كما هي الفرضية حول طبيعة الزمن في فيزياء نيوتن.
- الفرضية الثالثة تتعلق بتوزيع النجوم في الفراغ، إذ نفرض عمليًا أن هذا التوزيع عشوائي لكن له نفس الصفات في كل مكان. أي إنه لا توجد منطقة مفضلة في الكون توجد فيها النجوم ومنطقة أخرى لا توجد فيها النجوم، بل نفرض أنه في المعدل -التشديد هنا على كلمة معدل- تتوزع الأجسام عشوائيًا لكنها في نفس الوقت توجد على امتداد الكون كله بالتساوي. في الحقيقة هذه صيغة أخرى للفكرة التي تعرف بمبدأ كوبرنيكوس وطورها نيوتن؛ تقول إنه لا يوجد مكان خاص في الكون. الصورة رقم 2 توضح ما نقصده بتوزيع عشوائي لكنه في نفس الوقت متساوٍ.
- الفرضية الرابعة هي أن شدة الإضاءة الصادرة من كل نجم من هذه النجوم هي نفسها بالمعدل. أي إن التجانس ليس فقط في التوزيع العشوائي للنجوم وإنما أيضا فيما يتعلق بشدة إضاءتها.
عندما تُواجهنا تناقضات واضحة بين ما تقوله نظرياتنا وما نرصده في الطبيعة فإنّ حلّها قد يكمُن في تغيير جزء من الفرضيّات الأساسيّة التي نرتكز عليها في الاستنتاج الذي توصّلنا إليه، أو تغيير فهمنا لعلاقة ما نرصده بهذه النظرّيات. ظهرت اقتراحات كثيرة لحل مفارقة أولبرز تعتمد على الفرضيات الأربع التي نقلناها لكنها فشلت جميعها في حل المشكلة.
في الواقع أتى حلّ التناقض الظاهر الذي بينته مفارقة أولبرز مع ظهور نظرية الانفجار الكبير التي وضحت أن الفرضيات الأساسية رقم 1 و 2 و 3 التي نفرضها في مفارقة أولبرز غير صحيحة. أي أن الكون غير ثابت بالمعدل وكثافة الضوء التي تأتي من النجوم البعيدة تختلف عن التي تأتينا من النجوم القريبة، وهذا لأن الكون ينتشر (يتوسع) وطول موجة الضوء الذي يصلنا من النجوم والمجرات البعيدة يتغير ويحيد نحو الأحمر Redshift، أي إنه يخرج من نطاق الضّوء المرئيّ، وذلك لأنّ المجرّات تبتعد عن بعضها بسرعة كبيرة نتيجة لانتشار الكون. هذا يعني أن الضوء الآتي من مجرّات بعيدة جدًا عنا يخرج عن طيف الضوء المرئيّ، ومن ثم لا يضيء سماء الليل.
لكن أهم جزء في حل هذه المعضلة يتعلق بالفرضية التي تقول إنه لا بداية للزمن في الكون، وهي الفرضية الثانية التي بينتها نظرية الانفجار الكبير على أنها فرضيّة خاطئة. هنا أيضًا تنقذنا نظرية الانفجار الكبير التي تنص بوضوح على أن الكون ذو عمر محدود، لهذا نستطيع فقط أن نرى الضوء الآتي من المجرات التي يسمح مبلغ عمر الكون بوصولها إلينا. أي إذا كان مبلغ عمر الكون نحو 13.8 مليار سنة، لن نرى الضوء الآتي من مجرات تبعد عنا 500 مليار سنة ضوئية مثلًا، لأنّ الضّوء الذي صدر منها لم يصلنا بعد لأنه يحتاج إلى 500 مليار عام ليصلنا (إذا أهملنا انتشار الكون)، هذا زمن أطول من عمر الكون بكثير.
أي إن عتمة سماء الليل تعلمنا الكثير عن صفات الكوْن، ونستطيع أن نفهمها فقط من خلال نظرية الانفجار الكبير وانتشار الكون!
يجدر التنويه بأن المادة التي عرضت هنا مبنية على مادة متواجدة في كتابي «في البدء: فيزياء، فلسفة وتاريخ علم الكون»، وسعتها قليلًا بهدف كتابة هذا المقال.
اقرأ أيضًا: مفارقة كمية جديدة تضع أسس الواقع المرصود موضع تساؤل