يُعد علم الكونيات cosmology الأكثر طموحًا بين كل المجالات العلمية، إذ يسعى إلى فهم كيفية نشوء الكون وتطوره. يشمل هذا العلم دراسة الجسيمات، والجسيمات المضادة، وكميات الطاقة، وكيفية تفاعل هذه الأشياء فيما بينها، وكيفية تطور نسيج الزمكان. نظريًا، إذا سجلنا الشروط الأولية التي تصف الكون في بدايته، بما في ذلك مكونات الكون وكيفية انتشار هذه المكونات، والقواعد الفيزيائية المتحكمة فيه، فسنتمكن من محاكاة ما سيكون عليه الكون في أي وقت من المستقبل.
مع ذلك، تُعتبر هذه المهمة صعبة للغاية عمليًا. يسهل تنفيذ بعض الحسابات، ومن السهل ربط توقعاتنا النظرية بالظواهر المرئية، لكن في أحيان أخرى يصعب القيام بهذا الربط، والذي يُعد أفضل وسيلة ممكنة لرصد المادة المظلمة dark matter التي تشكل 27% من الكون المرئي، ولكن في أحد الاختبارات تحديدًا، تكرر فشل المادة المظلمة مرارًا، وتبين العلماء مؤخرًا أن سبب ذلك هو على الأرجح مجرد خطأ رقمي في الحسابات.
عندما نفكر في الكون كما نراه اليوم، نجد اختلافًا عند دراسته باستخدام مقاييس طولية مختلفة، بمعنى أنه عند النظر إلى الكون بمقياس نجم أو كوكب واحد، يبدو الكون فارغًا مع جرم صلب يحوم في الأرجاء، فمثلًا، يُعتبر كوكب الأرض أكثر كثافة بـ 1030 مرة مقارنةً بمعدل كثافة الكون، لكن عند النظر إلى الكون بمقاييس أوسع، يبدو لنا أكثر سلاسة.
بالمثل، قد تبدو مجرة منفردة مثل درب التبانة أكثر كثافة ببضعة آلاف من المرات مقارنةً بالمعدل الكوني، في حين أنه إذا درسنا الكون على مقاييس أوسع، مثل مجموعات المجرات أو التجمعات المجرية clusters التي يبلغ اتساعها 10 إلى 30 سنة ضوئية، سنرى أن أكثف تلك المناطق لا تتجاوز كثافتها بضع مرات مقارنةً بالكثافة المعتادة.
أما عند الحديث عن أوسع مقياس على الإطلاق، أي مليار سنة ضوئية أو أكثر، والذي تظهر فيه أكبر خصائص الشبكة الكونية، تكون كثافة الكون متساوية في كل مكان، بنسبة دقة تصل إلى 99.99%.
إذا وضعنا نموذجًا لكوننا بالاعتماد على التقديرات النظرية المدعومة بعدد كبير من المراقبات، نتوقع كونًا ممتلئًا بالمادة، والمادة المضادة، والإشعاع، والنيوترونات، والمادة المظلمة، مع قدر بسيط من الطاقة المظلمة. كان الكون في بدايته متناسقًا بشكل مثالي، مع مناطق فائقة الكثافة، وأخرى قليلة الكثافة، تبلغ نسبتها واحد من 30 ألف جزء.
ثم حدث العديد من التفاعلات في المراحل المبكرة من عمر الكون، منها:
- ساهمت الجاذبية في نمو مناطق فائقة الكثافة.
- تسببت التفاعلات بين الجسيمات مع بعضها، وبين الجسيمات والفوتونات، في تشتت المادة (المادة العادية لا المظلمة).
- أحدثت إشعاعات التيارات الحرة الصادرة عن المناطق فائقة الكثافة، على نطاق صغير، تغيراتٍ في البُنى المتشكلة في البداية المبكرة للكون.
وعندما بلغ عمر الكون نحو 380 ألف سنة، أصبح له نمط معقد في ما يتعلق بتقلبات درجة الحرارة والكثافة. تحدث التقلبات الكبرى على نطاق محدد، وفيها تنهار المادة العادية لأقصى درجة، ويكون للإشعاع فرصة ضئيلة للتدفق الحر، أما على المقاييس الزاويّة الأصغر، تشهد التقلبات الحرارية قممًا وأودية (أي ارتفاعات وانخفاضات) تقل سعتها تدريجيًا، تمامًا كما هو متوقع نظريًا.
إن التقلبات في درجة الحرارة والكثافة (أي اختلاف الكثافة الفعلية عن المتوسطة) صغيرة للغاية، أصغر من معدل الكثافة ذاته، لذلك يسهل التنبؤ بهذه التقلبات، ويمكن صياغة هذا التنبؤ تحليليًا، ومن المتوقع ظهور هذا النمط من التقلبات بوضوح من خلال عملية المراقبة، على المقياس الواسع لبنية الكون (في الترابط والتضاد بين المجرات)، وفي تغيرات درجات الحرارة المثبتة في خلفية الموجات الكونية الدقيقة cosmic microwave background (CMB).
تسهل صياغة هذه التوقعات في علم الكونيات الفيزيائي من خلفية نظرية، ويسهل تقدير كيفية تطور كون مثالي التناسق مع كثافة متطابقة في كل أرجائه (حتى لو كان مزيجًا من المادة العادية والمادة المظلمة والنيوترونات والإشعاع والطاقة المظلمة، إلخ)، وهكذا يمكننا حساب كيفية تطور الزمكان بالاعتماد على مكوناته.
اعتمادًا على ما سبق، ومع أخذ الخلل imperfection في الاعتبار، يمكننا التوصل إلى تقديرات دقيقة للغاية لنماذج الكثافة في أي نقطة من الكون، وذلك من خلال معدل الكثافة، بالإضافة إلى درجة قليلة من الخلل الإيجابي أو السلبي، وما دامت نسبة التغيرات صغيرة مقارنةً بمعدل الكثافة الخلفية، يسهل حساب تطور هذه التغيرات، وعند تأكيد صحة هذه التقديرات، يمكننا القول إننا في نظام خطي linear regime، حيث يمكن بشريًا إجراء الحسابات دون الحاجة إلى محاكاة رقمية.
تظل هذه التقديرات صالحة في المراحل المبكرة، وعلى المقاييس الواسعة للكون، إذ تكون تقلبات الكثافة صغيرة مقارنةً بمعدل الكثافة الكونية، ما يعني أن استخدام المقاييس الكونية الواسعة يُعد اختبارًا قويًا ودقيقًا للمادة المظلمة، ولنموذجنا للكون، ولهذا ليس من المفاجئ أن تكون توقعاتنا عن المادة المظلمة، على مقياس التجمعات المجرية فما أكبر، دقيقةً إلى حد كبير.
لكن هذه التقديرات لن تصبح بنفس الدرجة من النجاح عند تطبيقها على المقاييس الكونية الأصغر، مثل المجرات المنفردة فما أصغر، فعندما تصبح تقلبات الكثافة أكبر بكثير مقارنةً بمعدل كثافة الخلفية الكونية، لن نتمكن من إجراء الحسابات بشريًا، بل سنحتاج إلى محاكاة رقمية لمساعدتنا في التحول من النظام الخطي إلى النظام غير الخطي.
ظهرت أول محاكاة رقمية متعمقة في البنية غير الخطية للكون في تسعينيات القرن الماضي. على مستوى المقاييس الكونية، سمحت لنا هذه المحاكاة بفهم كيف أن تشكُّل البُنى على مقاييس صغيرة نسبيًا يتأثر بدرجة حرارة المادة المظلمة، وما إذا كان تحركها بعد أن تتكون سريعًا أم بطيئًا مقارنةً بسرعة الضوء، واعتمادًا على هذه المعلومة (إلى جانب مراقبة البُنى الكونية على مقياس صغير، مثل خاصية امتصاص غيوم الهيدروجين التي تعترضها الكوازرات)، توصلنا إلى أنه من أجل تكون هذه البُنى، يجب على المادة المظلمة أن تكون باردة، لا حارة، أو حتى دافئة.
شهدت التسعينيات أيضًا المحاكاة الأولى لهالات المادة المظلمة dark matter halos التي تتشكل تحت تأثير الجاذبية. اختلفت عمليات المحاكاة فيما بينها، لكنها اتفقت في خصائص معينة، منها:
- وصول الكثافة إلى أقصى درجاتها في مركز الهالة.
- انخفاض الكثافة بمعدل معين، حتى تصل إلى مسافة حرجة تعتمد على إجمالي كتلة الهالة.
- تنخفض الكثافة بمعدل مختلف أكثر حدة، حتى تصبح أقل من متوسط الكثافة الكونية.
أظهرت عمليات المحاكاة أيضًا ما يسمى الهالات المحدبة (الناتئة) cuspy halos، وتعني أن الكثافة تستمر في الارتفاع كلما اقتربنا من المناطق الداخلية، حتى ما بعد نقطة التحول، وذلك في كل المجرات، حتى الصغيرة منها.
هذا ما أظهرته المحاكاة، أما ما لاحظناه فعليًا فأمر مختلف، إذ لا تُظهر المجرات ضئيلة الكتلة حركاتٍ دورانية أو تغيرات في السرعة مثل المحاكاة. الوصف الأنسب لهذه المجرات هو الهالات الشبيهة بالنواة core-like halos، أو الهالات ذات المناطق الداخلية ثابتة الكثافة.
تُعرف هذه المعضلة في علم الكونيات باسم معضلة الحدبة-النواة the core-cusp problem، وهي من أقدم وأكثر إشكاليات المادة المظلمة إثارةً للجدل. نظريًا، يجب أن تكون المادة بنية مرتبطة بالجاذبية، وأن تُظهر ما يعرف بظاهرة الاسترخاء العنيف violent relaxation، إذ يتسبب عدد كبير من التفاعلات في سقوط أكبر المواد كتلةً نحو المركز، لتصبح مرتبطةً بشدة أكبر، في حين تُطرد المواد الأقل كتلة نحو الأطراف، بل إنها قد تُطرد من البنية تمامًا.
نظرًا إلى وجود ظاهرة مشابهة للاسترخاء العنيف في عمليات المحاكاة، وبما أن جميع عمليات المحاكاة أعطت نفس النتائج، استنتجنا أنها صحيحة فيزيائيًا. لكن مع ذلك، قد لا تكون المحاكاة صحيحة تمامًا، بل قد يكون الأمر مجرد خطأ رقمي كامن في المحاكاة نفسها.
يمكن أن تفكر في الأمر مثل تقريب موجة مربعة square wave تتغير فيها قيمة المنحنى دوريًا بين +1 و-1، باستخدام متسلسلة من منحنيات جيبية sine wave curves، وهي عملية تقريب معروفة باسم متسلسلة فورييه Fourier series. عند إضافتك عدد أكبر من الحدود بمعدل متزايد (وبسعة متناقصة) يصبح التقريب أدق، وقد تظن أن إضافة عدد لانهائي من الحدود يسمح لك بالحصول على تقريب دقيق جدًا، مع هامش خطأ صغير.
لكن هذا ليس صحيحًا، لأنك كلما أضفت المزيد من الحدود إلى المتسلسلة، ستظل تحصل على تخطٍ overshoot واسع في كل مرة تتحول فيها من قيمة +1 إلى -1 أو العكس، ومهما كان عدد الحدود التي تضيفها سيظل التخطي موجودًا، بل إنه لن يصل أبدًا إلى الصفر مهما أضفت من الحدود، بل سوف يصل إلى قيمة أساسية، 18% تقريبًا، ولن يقل عن ذلك أبدًا. هذا تأثير رقمي للتقنية المستخدمة، وليس التأثير الحقيقي للموجة المربعة.
نشر كل من أ.ن. بوشيف A.N. Baushev وَ س.ف. بيليبينكو S.V. Pilipenko ورقةً بحثية في مجلة Astronomy & Astrophysics، يؤكدان فيها أن النتوءات المركزية central cusps الملاحظة في هالات المادة المظلمة هي نتاج خطأ رقمي ناتج عن كيفية تعامل المحاكاة مع الأنظمة متعددة الجسيمات المتفاعلة فيما بينها ضمن نطاق مكاني صغير. يظهر لنا تشكل مركز الهالة بتلك الطريقة بسبب الخوارزمية المستخدمة في تقدير قوة الجذب، لا بسبب التأثيرات الفعلية للاسترخاء العنيف.
أي أن مستويات كثافة المادة المظلمة داخل الهالات التي نستخلصها من عملية المحاكاة قد لا تكون لها علاقة بالفيزياء المتحكمة في الكون، بل إنها قد تكون مجرد خطأ رقمي في الطريقة التي نستخدمها في صنع نماذج هذه الهالات.
وفقًا لما جاء في الورقة البحثية المذكورة، تثير النتائج شكوكًا في دقة عمليات المحاكاة التي تصف مركز الهالة. إن النموذج المستخدم مثبت ومستقر نظريًا، إلا أن خصائص تأثير الاسترخاء العنيف الحادث في أثناء المحاكاة قد يكون المتسببَ غالبًا في تشكل النتوء في نماذج مقاييس البنى الكونية الكبيرة، وبهذا فإن إشكال النواة-الحدبة ليس أكثر من مشكلة تقنية في محاكاة N-body (وهي محاكاة لأنظمة الجسيمات الديناميكية التي تتعرض غالبًا لقوى الفيزياء المختلفة).
إذن، فالمشاكل الوحيدة المتعلقة بالمادة المظلمة في علم الكونيات تحدث على النطاقات الصغيرة فلكيًا، أي في ما يتعلق بنظام التطور غير الخطي، وهذا ليس أمرًا غريبًا، وإن ظل معارضو المادة المظلمة لعقود يحتجون بوجود المشاكل المتعلقة بالنطاق الأصغر، مقتنعين بأنهم سيكشفون العيوب الملازمة للمادة المظلمة، ويكشفون حقائق أعمق.
باعتبار ما جاء في الورقة البحثية صحيحًا، فإن الخطأ الذي ارتكبه علماء الكونيات هو أنهم قد اعتمدوا على إحدى النتائج المبكرة للمحاكاة -وهي أن المادة المظلمة تشكل هالات تحتوي نتوءات في مركزها- وأعلنوا عن استنتاجاتهم قبل الأوان، وهو ما يخالف المنهج العلمي السليم الذي يلزم الباحث بمراجعة نتائجه والتحقق منها بشكل مستقل، لكن إذا ارتكب الجميع نفس الخطأ، فلن تكون عمليات التحقق هذه مستقلة على الإطلاق.
إذا توصلنا إلى معرفة ما إذا كانت النتائج التي توصلنا إليها عن طريق المحاكاة ناتجة عن الطبيعة الفعلية للمادة المظلمة أو أنها ناتجة عن خطأ في التقنية المستخدمة، فسنضع حدًا لأكبر نقاش حول هذا الأمر. إذا كانت نتائج المحاكاة تمثل الطبيعة الفعلية، فستظل مشكلة الحدبة-النواة مصدر خلاف في ما يتعلق بنماذج المادة المظلمة، أما إذا كان السبب خطأً في محاكاة هذه الهالات، فسينتهي هذا الخلاف وكأنه لم يكن.
اقرأ أيضًا:
دراسة مثيرة تكشف أن المادة المظلمة ربما تكون أقدم من الانفجار العظيم
متى وأين ظهرت المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟
ترجمة: وليد سايس
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: اسماعيل اليازجي