وُقعت معاهدة فرساي في يونيو 1919 في قصر فرساي في باريس في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتضمنت شروط السلام بين الحلفاء المنتصرين وألمانيا. عدت معاهدة فرساي ألمانيا مسؤولةً عن بدء الحرب، وفرضت عليها عقوبات قاسية تتضمن التنازل عن الأراضي ودفع تعويضات ضخمة ونزع السلاح.
تختلف معاهدة فرساي عن مبدأ (سلام بلا انتصار) الذي عرضه الرئيس الأميركي (وودرو ويلسون) في 14 نقطة مطلع عام 1918، إذ أذلت المعاهدة ألمانيا، ومع ذلك فشلت في حل القضايا الأساسية التي سببت الحرب. أدت الأزمة الاقتصادية والاستياء من المعاهدة داخل ألمانيا إلى تغذية المشاعر القومية المتطرفة التي ساعدت على صعود أدولف هتلر وحزبه النازي، واندلاع الحرب العالمية الثانية بعد عقدين فقط من توقيع المعاهدة.
ألقى ويلسون خطابًا أمام الكونجرس في يناير 1918، عرض فيه رؤيته المثالية لعالم ما بعد الحرب. إضافةً إلى تسويات إقليمية محددة مبنية على التوافق. تضمن خطاب ويلسون 14 نقطة أكد فيها الحاجة إلى تقرير المصير الوطني لسكان أوروبا من مختلف الأعراق، واقترح تأسيس رابطة دولية تتوسط حل النزاعات الدولية وتعزز التعاون بين مختلف الدول لمنع نشوب حرب واسعة أخرى مستقبلًا. وقد تأسست هذه المنظمة فيما بعد وعُرفت بعصبة الأمم.
ما يلي هو موجز لنقاط ويلسون الأربع عشرة:
- يجب أن تكون الدبلوماسية علنية دون معاهدات سرية.
- تتمتع جميع الدول بحرية الملاحة في البحار.
- تأسيس حرية التجارة لوضع حد للحواجز الاقتصادية بين البلدان.
- الحد من التسلح في جميع البلدان للحفاظ على السلام العام.
- فرض الأحكام العادلة النزيهة استجابةً لمطالب مواطني المستعمرات.
- استقلال الأراضي الروسية.
- استعادة استقلال بلجيكيا.
- إعادة (الألزاس) و(اللورين) إلى فرنسا وتحرير أراضيها بالكامل.
- رسم حدود واضحة مُعترف بها لإيطاليا استنادًا إلى الجنسية.
- منح سكان مملكة (النمسا – المجر) حق تقرير المصير.
- ضمان تقرير المصير والاستقلال لدول البلقان.
- منح الأتراك والخاضعين للحكم التركي حق تقرير المصير.
- استقلال بولندا.
- تشكيل رابطة دولية لحل النزاعات الدولية.
وقّع القادة الألمان في 11 نوفمبر 1918 الهدنة التي أنهت اشتباكات الحرب العالمية الأولى، واعتقدوا أن رؤية ويلسون ستشكل أساسًا لأي معاهدة سلام مستقبلية، لكنهم ذلك لم يتحقق.
مؤتمر باريس للسلام
افتُتح مؤتمر السلام في باريس في 18 يناير 1919، وهو تاريخ مهم لأنه صادف الذكرى السنوية لتتويج الإمبراطور الألماني (فيلهلم الأول) في قصر فرساي في نهاية الحرب الفرنسية – البروسية سنة 1871، إذ أدى الانتصار البروسي في ذلك النزاع إلى توحيد ألمانيا واستيلائها على مقاطعتي الألزاس واللورين الفرنسيتين. وفي عام 1919، عزمت فرنسا ورئيس وزرائها (جورج كليمنسو) على الثأر لهذه الخسارة في اتفاقية سلام جديدة.
بنود معاهدة فرساي
هيمن قادة الدول المنتصرة على مفاوضات السلام في باريس، وهم الأربعة الكبار: (ويلسون) من الولايات المتحدة، و(ديفيد لويد جورج) من بريطانيا العظمى، و(جورج كليمنسو) من فرنسا، وبدرجة أقل (فيتوريو أورلاندو) من إيطاليا. لم تُمثَّل ألمانيا والدول المهزومة الأخرى مثل بلغاريا وتركيا و(النمسا – المجر) في ذلك المؤتمر، وكذلك لم تُمثل روسيا رغم أنها حاربت في صف الحلفاء حتى 1917، عندما أبرمت الحكومة البلشفية الجديدة سلامًا منفصلًا مع ألمانيا وانسحبت من الصراع.
كان للدول الأربعة الكبرى أهداف تنافسية في باريس. كان الهدف الرئيسي لكليمنسو هو حماية فرنسا من أي هجوم ألماني آخر، وسعى للحصول على تعويضات كبيرة من ألمانيا بغرض إعاقة تعافي الاقتصاد الألماني بعد الحرب. لكن على النقيض رأى لويد جورج أن إعادة بناء ألمانيا يُعَد أولويةً من أجل نهوض الدولة بوصفها شريكًا تجاريًا رئيسيًا لبريطانيا العظمى، أما أورلاندو فقد هدف إلى توسيع نفوذ إيطاليا وتحويلها إلى قوة عظمى قادرة على الصمود بجانب سائر الدول الكبرى.
عارض ويلسون المطالب الإقليمية الإيطالية والترتيبات المتعلقة بالأراضي بين الحلفاء الآخرين، وبدلًا من ذلك أراد أن ينشئ نظامًا عالميًا جديدًا وفق النقاط الأربع عشرة، لكن القادة الآخرين عدّوا ويلسون ساذجًا ومثاليًا جدًا ومن الصعب اعتماد مبادئه في الواقع.
في النهاية فرض الحلفاء الأوروبيون شروط سلام قاسية على ألمانيا، وأجبروها على التنازل عن نحو 10% من أراضيها، وكل ممتلكاتها في الخارج. تضمنت بنود معاهدة فرساي أيضًا تجريد منطقة الراين من السلاح، وتقييد جيش ألمانيا وأسطولها البحري ومنعها من امتلاك قوة جوية، ومحاكمة القيصر فلهلم الثاني وقادة ألمان آخرين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وأهم من ذلك أن المادة 231 من المعاهدة المعروفة باسم (بند ذنب الحرب) أرغمت ألمانيا على تحمل مسؤولية إشعال الحرب العالمية الأولى بالكامل، ودفع تعويضات هائلة عن الخسائر التي تكبدها الحلفاء في الحرب.
الانتقادات المُوجهة لمعاهدة فرساي
وُقِّعت معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919، أي بعد خمس سنوات من اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند وزوجته في ساراييفو على يد القومي الصربي غافريلو برنسيب، وهي الحادثة التي أدت إلى اندلاع الحرب. تضمنت المعاهدة بندًا لإنشاء عصبة الأمم (منظمة دولية تهدف إلى الحفاظ على السلام)، لكن الشروط القاسية المفروضة على ألمانيا منعت استمرار السلام فترةً طويلة.
غضب الألمان بسبب المعاهدة، إذ عدّوها إملاءً قهريًا للسلام، واستاؤوا من إلقاء اللوم عليهم وحدهم. تجاوزت التعويضات التي تحملتها الدولة 132 مليار مارك، أي ما يعادل 33 مليار دولار، وهو مبلغ فادح توقع الكثيرون أن ألمانيا لن تتمكن من دفعه كاملًا. وتوقع خبراء الاقتصاد مثل جون ماينارد كينز انهيار الاقتصاد الأوروبي إذا دفعت ألمانيا هذه المبالغ، وكان كينز أحد المنتقدين البارزين لمعاهدة فرساي.
رفض القائد العسكري الفرنسي فرديناند فوش حضور مراسم التوقيع لاعتقاده أن المعاهدة لا تضمن منع أي تهديد ألماني مستقبلي، ولم يصادق الكونغرس الأمريكي على المعاهدة وأبرم لاحقًا سلامًا منفصلًا مع ألمانيا، إذ لم تنضم الولايات المتحدة وقتها لعصبة الأمم.
في السنوات التي تلت معاهدة فرساي، لقب المواطنون الألمان الزعماء الذين وقعوا المعاهدة وشكلوا حكومة ما بعد الحرب بلقب (مجرمي نوفمبر)، واصمين إياهم بخيانة ألمانيا، ما ساعد على صعود القوى اليمينية المتطرفة وخاصةً حزب العمال الاشتراكي الوطني في العشرينيات والثلاثينيات، إذ وعدوا بالثأر لما لحق بهم من إذلال إثر معاهدة فرساي. ومع اندلاع الأزمة الاقتصادية سنة 1929، تسببت الاضطرابات الاقتصادية في زعزعة استقرار حكومة (فايمار) الضعيفة بالفعل، ما مهد الطريق لصعود الزعيم النازي أدولف هتلر إلى السلطة سنة 1933.
اقرأ أيضًا:
الفينيقيون: من هم؟ وأين عاشوا؟
ترجمة: فارس علام
تدقيق: غزل الكردي
مراجعة: أكرم محيي الدين