مدخل إلى الكوكبات النجمية
ما الّذي يُراودُكَ عندما ترفَعُ بَصَركَ إلى السّماءِ لترقُبُ النجوم؟ هل هي الرَّغبةُ في اكتشافِ الفضاء؟ أم هو الشّعورُ بالدَّهشةِ والانبِهار؟ هل سَبَقَ وتَساءلتَ عمَّا تَعنيه تلك الأشكال التي تُزَيِّنُ السّماء؟ إذا كان الجواب على جميع هذه الأسئلة هو نعم، وكنت تقف في مكانك تُحدِّقُ في السماءِ، وتراقِبُ تلكَ الأشكالَ كجميعِ أولئكَ الّذين سبقوكَ على هذه الأرض، فهذا يعني أنَّكَ على الطّريقِ الصَّحيح.
إذا كان الكثيرون يعرفون اسمَ كوكبةٍ نجميّةٍ واحدةٍ على الأَقلّ، فإنَّ القَليلينَ فقط يعلمون مِن أين جاءَت وماهي القصّةَ وراءَ تسميتِها، أو مَن هيَ الحضارةُ الأولى الّتي قامت بِرَصدِها؟ أو كم هو عددُ الكَوكباتِ النّجميةِ الموجودةِ في الفضاء؟
سنُحاول في هذا المقالِ، الإجابَةَ عن هذه الأسئلةِ وتقديمِ أهمّ المعلوماتِ المُرتبطة بها.
بادئ ذي بدء، التّعريف
الكَوكبَة النّجميّة، أو التّجمّع النّجميّ، هو مِنطقة مُحدّدة من القبّة السَّماويّة، ورغمَ ارتباطِ هذا المصطلح في معظم الأحيان بتلك المجموعات النّجميّة الّتي نراها في سماء اللّيل، إلّا أنّها ليست جميعها كوكَباتٌ نَجميّةٌ بمُسَمًّى مُحدَّدٍ، بحيث سُمِّيَت فقط تِلكَ الّتي تضُمُّ نجومًا جِدّ مُتقاربة، بحيث يمكن أيضًا أن تُعطيَ أشكالًا هندسية محدَّدة، إذا ما رُبِطَت بخيوطٍ وهمِية. وتعُودُ أصل هذه الممارسة إلى آلافِ السنين، ربَّما إلى العصرِ الحجَريّ القديم الأعلى (10.000 إلى 40.000 سنة مضت). فقد قامت الأبحاث الأثريَّة بتحديد بقايا رسومٍ لِكوكباتٍ نجميةٍ بكهف لاسكو جنوب فرنسا؛ إحدى أشهر كهوف عصر ما قبل التّاريخ (نحو 17.300 سنة)، والّتي تُظهرُ رسمًا لعنقودِ الثُّريَّا وحِزامِ الجَوْزاء.
يوجد رسميًّا اليوم 88 كَوكَبةً نجميَّةً تَمَّ تَعرُّفها، وهي تُغطّي السماءَ بشكلٍ كامل. كما إنَّ أيَّ نُقطةٍ مُحدَّدةٍ في نظامِ الإحداثيّات بالقُبّة السّماويّة، يُمكنُ الإشارةُ إلى انتمائِها إلى كوكبةٍ مُعيّنة. وهي مُمارسةٌ شائعةٌ في علمِ الفلكِ الحديث، عِندَ تحديد شيءٍ ما في السَّماء، يَتِمُّ الإشارةُ إلى الكَوكَبةٍ النّجميةَ القريبةِ مِن إحداثيّاتِه، وهذا يمنحُ فكرةً تقريبيّة عنِ المكانِ الّذي يُمكِن إيجادُه فيه.
لِكَلمة كَوكبَة (constellation) جُذُورٌ في اللُّغَةِ اللّاتينيّةِ المُتَأخّرة، مِن كلمة (constellation) والّتي يُمكن ترجَمَتُها حَرفيًّا إلى «مَجموعةٍ مِنَ النُّجوم». أمَّا التَّعريفُ الأكثرُ دِقّةً للمُصطَلح، فهو: المجموعة النَّجمية الّتي ارتبط اكتشافُ نجومها بإحدى الشّخصيَّاتِ الخُرَافيَّة، أو كائناتٍ بمواصفاتٍ مُعيّنة. كما تَجدُر الإشارةُ إلى أنَّ الاستعمالَ العامّيَّ لكلمة “كَوكَبة” لا يُفرّقُ عمومًا بين التّجمّعِ النّجميّ، والمِساحة المُحيطَةِ به.
عادةً ما تمتلِكُ النّجومُ في الكَوكَبةِ شيئًا واحدًا مُشتركًا، وهو ظهورُها قريبَةً من بعضِها عِندَ النَّظَرِ إليها مِن الأرض. أمَّا في الواقعِ، فإنّ تلكَ النجومَ بعيدةٌ جِدًّا عن بعضِها، وظُهورها على خطٍّ واحدٍ مُتَقاربٍ يعودُ فقط إلى بُعدِها الكبيرِ عن الأرض. لمّا كانت النّجومَ تسافِرُ هي الأخرى في مداراتها الخاصَّةِ بدَربِ التبّانة، فإنّ نمطَ الكَوكَبات النّجميّة يتغيَّرُ بشكلٍ بطيءٍ مع مُرورِ الزّمن.
تاريخُ بدءِ مراقبتها
يُعتقَدُ أنَّ عادَة مراقبَةِ السَّماء وإعطاءِ أسماءٍ وشخصيّاتٍ للأجرامِ السّماويَّة، يعود بالقِدَم إلى غاية حِقبَة الإنسانِ الأوّل الّذي مشى على الأرض. إذ إنَّ العلاماتِ الأولى المُسجّلة لعمليّة رصدِ النّجوم، وتسميَة الكَوكَبات، سُجِّلَت في بلاد الرّافدين القديمة، وذلكَ على ألواحِ طينٍ يصلُ عمرها إلى نحو 3000 سنة قبل الميلاد.
وكان البابِليّون أوَّلَ من فَطِنَ إلى دَورِيَّةِ الظّواهرِ الفلكيّةِ وإمكانيَّةِ حِسابِها رياضِيًّا، وذلكَ خلال العصرِ البرونزيّ الوسيط (2100 – 1500 قبل الميلاد)، وهم أيضًا مَن أنشأ أوَّل قائِمةٍ للنّجوم، والّتي تمَّ الاطِّلاعُ عليها فيما بعد من طرفِ الإغريق، والرّومان، والعلماء اليهود الّذين أنشأوا بدورهم نُظُمَهُم التنجيميَّةَ والفلكيَّةِ الخاصَّة.
يُمكِن تتبّع التّقاليد الفلكيَّة في الصّين القديمة حتّى مُنتصَفِ عَصرِ حُكم أُسرة تشانغ (القرن الثّالث عشر قبل الميلاد)، حيثُ أظهرت كتاباتٌ على عِظام الأوراكل المُكتشَفَة في “أنيانغ” (مدينة تقع في شمال الصين) أسماءً لِلنُّجوم. وتزامنَت هذه الاكتشافات مع القوائمِ السُّومريَّة، بحيث يُعتقد أنَّ هذه الكتابات لم تُدَوَّن بشكل مستَقِلٍّ في المِنطقتين، وهذا ما يدُلّ على وجود تبادلٍ للمعارف خلال تِلكَ الحِقبة. المُراقبات الفلكيَّة الّتي أُجريت في فترة زهانغو (القرن الخامس قبل الميلاد) تمّ تسجيلها بعد ذلك من طرف الفلكيّين في فترة هان (220-206 قبل الميلاد)، وتمخَّض عن ذلك ظهورُ نِظامٍ مُوحَّدٍ لعِلمِ الفلك الصّينيّ الكلاسيكيّ.
أمّا في الهند، فقد ظهرت الإشاراتُ الأولى لوجودِ نظامٍ فلَكيٍّ في حضارة وادي السِّنْد (3300-1300 قبل الميلاد). وأقدمُ عيّنة تم تسجيلها للفلك والتّنجيم هي «الفيدانغا جيوتيشا»، وهي دِراسةٌ تمثِّلُ جزءًا من الأدبِ الفيدي (لها بُعدٌ ديني) وتمَّ تقديرُ عمرها من 1400 إلى 1200 سنة قبلَ الميلاد.
بحلول القرنِ الرّابعِ قبل الميلاد، قام الإغريق بِتَبَنِّي النِّظام البابليّ وأضافوا إليه عِدّة كوكبات. وفي القرن الثاني قبل الميلاد، قام كلوديوس بطليموس (Claudius Ptolemaus) بتوحيدِ الكوكبات الـ48 المعروفة آنذاك في نظامٍ واحد. وقد أطلق العربُ على أطروحته تلك اسمَ «المجسطي»، وتعني الأطروحة الرياضية، واستُعملت بكثافةٍ من طرف علماءِ القرون الوُسطى الأوروبيين، والعلماء المُسلمين لمُدَّةٍ فاقَت الألفَ سنة.
وقد عَرفَ العالمُ الإسلاميّ بين القرنين الثّامن والخامسَ عشر ثورةً في التطوّرِ العِلمي، من الأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليًّا)، إلى غاية آسيا الوُسطى والهند. وكان للتّقدّم الّذي شهدَه ذلِك العصر في علم الفلك والتّنجيم علاقةً وثيقةً بالتطور المتزامن في المجالاتِ الأخرى، حيثُ توسّعت المعرفةُ الكلاسيكية والقديمة وشُرِحَت بِشكلٍ أفضل.
ومنذ نهايةِ القرنِ السّادس عشر إلى الوقتِ الحاضر، أدَّى عصرُ الاستكشافات إلى ما يُعرفُ بالمِلاحة القطبية (استكشافُ القطبين)، وهذا ما قاد عُلمَاء الفَلَكِ الأوروبيين إلى رصدِ الكَوكَبات في القطبِ السَّماويّ الجنوبيّ لأوّلِ مرَّة. رافَقَت ذلك البعثاتُ الاستكشافيةُ الّتي قصَدَت أغلبَ مناطق القارَّة الأمريكية، وأفريقيا، وآسيا، وباقي الأماكن الّتي لم تُستكشف من قبل على الكوكب، وهذا ما أدَّى إلى ظهورِ القوائمَ النّجميَّة الحديثة.
الاتّحاد الفلكيّ الدّوليّ (IAU)
يَملكُ الاتحادُ الفلكيُّ الدّوليُّ اليومَ قائمةً تَضُمُّ 88 كَوكَبةً مُعترفًا بها. والفضل يعُودُ في ذلكَ إلى هنري نوريس راسل «Henry Norris Russell»، الّذي قامَ بمُساعدةِ الاتّحاد سنة 1922 في تقسيم القبةِ السّماويَّة إلى 88 منطقةً رسميَّة. وفي عام 1930، تمَّ تحديدُ حدود تلك الكَوكَبات من طرف أوجان ديلبورت (Eugène Delporte).
تضُمُّ لائحةُ الاتّحادِ الفلكيّ الدّوليّ كَذلكَ الكَوكَبات الـ48 الّتي صنَّفها بطليموس في «المجسطي»، مع تغييراتٍ تُناسِبُ الاكتشافاتِ الحديثةِ وإضافاتٍ من علماءِ فلكٍ مُتأخّرينَ، على غرار بطرس بلانكوس (1552 – 1622)، وجوهانس هيفيلوس (1611 – 1687)، ونيكولا لوي دو لاكاي (1713 – 1762).
هذا وتعودُ البيانات الّتي استعملها ديلبورت في عمَلِه إلى أواخرِ القرن التّاسع عشر، حيثُ ظهَرَت في ذلكَ الوقت اقتراحاتٌ من أجلِ تحديدِ الحدودِ بين الكَوكَباتِ في القبَّة السماويَّة لأوّلِ مرَّة. ونجدُ، نتيجةً لذلك، أنَّ الحدودَ في خريطةِ النجوم الحديثة مُنحرِفةٌ بعضَ الشَّيء، لدرجةِ أنَّها لم تعد أفقيَّة أو عمودية. وهذا الأمر سيتفاقمُ مع القرون القادمة، ممّا يستوجبُ القيام ببعضِ المُراجعات.
ويجبُ أن نذكُرَ أيضًا، أنّهُ لم يتّمّ، منذُ قرونٍ عَديدَةٍ، إحداثُ أيّ تغييرٍ على الكَوكَبات الجديدة أو أسماءِ الكَوكَبات القديمة. فعندما يتمُّ اكتشافُ نجومٍ جديدةٍ، يقوم الفلكيّون فقط بإضافتها إلى أقرب كَوكَبَةٍ إليها. لذلك، يَجبُ أن نَعلَمَ أنَّ تحديثَ قائمةِ النجومِ في الكوكبات يجب أن يَتِمَّ بِشكلٍ دوريّ.
إعداد : وليد سايس
تدقيق: بدر الفراك
المصدر