لدى كل بلدان العالم تقريبًا بنك مركزي، وهو مؤسسة عمومية تدير عملة البلاد وسياستها النقدية.

لهذه البنوك قدر هائل من النفوذ، إذ تستطيع أن تؤثر في النمو الاقتصادي والتضخم والتشغيل والاستقرار المالي، بتحكمها في تدفقات الأموال والقروض. إن تم التحكم في كل تلك العوامل تحكمًا صحيحًا، قد تمنح للسياسيين دفعات اقتصادية في أزمنة قريبة من وقت الانتخابات، ما يؤدي إلى إثقال الاقتصاد بمشكلات أكبر لاحقًا.

لذلك مُنحَت البنوك مؤخرًا استقلالية أكبر في تحديد نسب الفائدة باستقلالية عن الأهواء الانتخابية للسياسيين.

في الحقيقة، عُدَّ تحديد السياسات المالية بشكل تكنوقراطي وخاضع للبيانات، وذلك بدلًا من أن يحمل دوافع سياسية، المعيار الذهبي في حوكمة المالية العمومية منذ أوائل التسعينيات.

عمومًا، حقق هذا التفاهم الذي يبقى فيه مصرفيو البنوك المركزية على مسافة من السياسيين، غايته الأساسية، إذ ظل التضخم منخفضًا نسبيًّا في البلدان التي لديها بنوك مركزية مستقلة، مثل السويد وسويسرا، حتى بدأت الجائحة والحرب في أوروبا برفع الأسعار عالميًّا.

بالمقابل، تعرضت البلدان التي لم تمنح البنك المركزي استقلاله تمامًا مثل لبنان ومصر، أو تلك التي قوضت هذا الاستقلال مثل تركيا والأرجنتين، إلى موجات تضخم أكبر.

لكن مع نجاح سياسة الاستقلالية الملحوظ، ظلت البنوك المركزية تتعرض في العقد الماضي إلى مزيد من الضغوط من قبل السياسيين. إذ يطمحون لإبقاء نسب الفائدة منخفضة كي يكسبوا رضا الناخبين، وذلك بفضل اقتصاد جيد وقروض منخفضة التكلفة.

يُعد دونالد ترامب من الأمثلة الراهنة على ذلك، إذ انتقد الخيار الذي اتخذه هو نفسه بقيادة الاحتياطي الفيدرالي عندما كان رئيسًا، وطالب أيضًا بتخفيض نسب الفائدة. أما الآن، فإن عاد ترامب إلى البيت الأبيض، فسيجهز خصومه خططًا، لو جلس ترامب بعد انتخابه في اجتماعات الاحتياطي الفيدرالي لتحديد نسبة الفائدة، أو على الأقل حال تغييره لرئيس البنك المركزي الحالي جيروم باو.

بالمثل، تعرض بنك إنجلترا المركزي رسميًّا للمراجعة، وقد ضغطت الحكومة البريطانية على بنك إنجلترا علنًا كي يخفض من نسب الفائدة، ما يفترض أن يمنح دفعةً للاقتصاد قبيل الانتخابات العامة في يوليو.

بالنسبة إلى خبراء الاقتصاد السياسي، يجب ألا يندهشوا عند رؤية محاولات السياسيين للتأثير في البنوك المركزية، فالسياسات النقدية طالما كانت سياسية حتى مع استقلاليتها، فمثلًا تبقى البنوك المركزية جزءًا من بيروقراطية الحكومة، ويمكن دائمًا التخلي عن الاستقلالية التي مُنحت لها، إما بتغيير القوانين وإما بالتراجع عن ممارسات مترسخة.

أيضًا فإن السبب الذي يجعل السياسيين، خاصةً من يخوضون انتخابات، راغبين في التدخل في السياسات النقدية، أن نسب الفائدة المنخفضة تبقى طريقةً فعالة لتعزيز الاقتصاد، ومع أن السياسيين يعلمون بوجود عواقب للتضييق على بنك مركزي مستقل، إذ قد تتأثر الأسواق المالية سلبيًا، أو ربما يرتفع التضخم بسرعة، فإن التحكم بآلية سياسية بهذه القوة على مدى قصير، قد يكون أمرًا مغريًا بشكل لا يُقاوم.

استقلالية التشريعات:

إذا كانت السياسة النقدية أداة سياسية مرغوبة إلى هذه الدرجة، فكيف صدت البنوك المركزية السياسيين وبقيت مستقلة؟ وهل تتقلص هذه الاستقلالية؟

إن البنوك المركزية عمومًا محمية بقوانين تمنح فترات طويلة لقيادتها، ما يمكنها من التركيز أساسًا على التضخم، والحد بشدة من إقراض بقية الحكومة.

بطبيعة الحال، لا يمكن لمثل هذه التشريعات أن تستبق كل الطوارئ في المستقبل، ما يفسح المجال للتدخل السياسي أو لممارسات تخرق القانون، وأحيانًا يُطرد المصرفيون من البنك المركزي بشكل غير رسمي.

مع ذلك، ما تزال القوانين تضبط السياسيين. مثلًا، ساهمت القوانين التي تحمي البنوك المركزية من التدخل السياسي، في الحد من التضخم وتقييد إقراض الحكومة من قبل البنك المركزي حتى في الدول الاستبدادية.

تطرق هذا البحث إلى السبل التي تفصل بها القوانين بين البنوك المركزية والحكومة، إضافةً إلى التوجه الحديث نحو تقليص هذه الاستقلالية القانونية.

تسييس التعيينات:

إن التعيينات في قيادة البنوك المركزية حول العالم تعيينات سياسية. يختار السياسيون المُنتخبون مرشحين على أساس اعتماداتهم المهنية وانتماءاتهم السياسية ونفورهم من التضخم أو تساهلهم معه، لكن المُشرعين في الدول المُختلفة يمارسون درجات مختلفة من الضغط السياسي.

تُظهر دراسة أُجريت سنة 2023، أن الأغلبية العظمى من مسؤولي البنوك المركزية التي تقدر بنحو 70%، تعينهم الحكومة، أو بتدخل أعضاء آخرين من السلطة التنفيذية، ما يضمن التقارب بين توجهات البنك المركزي والحكومة، ويؤدي إلى تعزيز شرعية البنك المركزي في البلدان الديمقراطية، لكنه يخاطر بجعله أكثر عرضةً للنفوذ السياسي.

من ناحية أخرى، قد تشمل قرارات التعيين السلطة التشريعية أو حتى مجلس البنك المركزي نفسه. في الولايات المتحدة، عندما يعين الرئيس أعضاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي، يستطيع مجلس الشيوخ رفض المرشحين غير الأكفاء أو غير التقليديين.

حتى لو كانت التعيينات سياسية، يمكن للمصرفيين في البنوك المركزية أن يبقوا في مناصبهم بعد أن يغادر السياسيون الذين عينوهم بفترة طويلة عبر الانتخابات. في نهاية 2023، كانت مدة تعيين المحافظين غالبًا خمس سنوات، وفي 41 بلدًا كانت مدة الانتداب القانونية ست سنوات أو أكثر.

في السنوات من 2000 حتى 2010، قصّرت بلدان عديدة من فترة تولي محافظي البنوك المركزية لمنصبهم، وذلك إلى أربع أو خمس سنوات. كان هذا أحيانًا جزءًا من تقييدات أشمل في استقلالية البنوك المركزية، كما حدث في أيسلندا سنة 2001، وغانا 2002، ورومانيا 2004.

هدف تخفيض التضخم:

بحلول 2023، جعلت كل البنوك المركزية في العالم باستثناء ستة منها، الحد من التضخم هدفًا أساسيًا. ومع ذلك، فإن العديد من البنوك المركزية مُلزمة قانونيًا بمحاولة تحقيق أهداف إضافية ومتضاربة أحيانًا، مثل الاستقرار المالي أو التشغيل الكامل أو دعم سياسات الحكومة.

ينطبق الأمر على 38 بنكًا مركزيًا تلقت تفويضًا رسميًا بتحقيق غايتين مُعلنتين هما استقرار الأسعار والتشغيل، أو أهداف أعقد. في الأرجنتين مثلًا، كان تفويض البنك المركزي هو توفير الوظائف والتقدم الاقتصادي مع العدالة الاجتماعية.

قد تفتح الأهداف المتضاربة الباب أمام تسييس البنوك المركزية. لدى الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة تفويض مزدوج لتحقيق استقرار الأسعار وأقصى حد ممكن من التشغيل المُستدام. كثيرًا ما تتكامل هذه الأهداف، وقد ذهب الاقتصاديون إلى أن انخفاض التضخم شرط مسبق لتحقيق مستويات عالية من التشغيل.

لكن أحيانًا يتداخل ارتفاع التضخم وارتفاع البطالة، مثلما حدث في أواخر السبعينات، عندما ظلت أزمة كوفيد-19 تلقي بظلالها حتى 2022، أصبح التفويض المزدوج للاحتياطي الفيدرالي مجالًا للتجاذبات السياسية.

منذ سنة 2000، وسعت 23 دولةً من مجال اهتمام بنوكها المركزية لتشمل أهدافًا تتجاوز التحكم في التضخم فقط.

تقييد الإقراض للحكومة:

أُنشئت البنوك المركزية أولًا لتساعد على تأمين التمويل للحكومات التي تخوض حروبًا. لكن اليوم، يُعد الحد من إقراض الحكومات مركزيًّا لحماية استقرار الأسعار من الإنفاق المالي غير المُستدام.

إن التاريخ حافل بمناسبات تظهر فيها النتائج إن لم تفعل البنوك المركزية ذلك. فمثلًا في الستينات والسبعينات، طبعت البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية الأموال كي تدعم أهداف حكوماتها في الإنفاق. لكن ذلك تسبب في تضخم هائل ولم يؤمن النمو والاستقرار السياسي.

اليوم، يقترن الحد من الإقراض بانخفاض التضخم في الدول النامية، إذ تستطيع البنوك التي تملك مستوى عاليًا من الاستقلالية رفض طلبات الحكومة للتمويل أو فرض شروط للقروض.

لكن على مدى العقدين الماضيين، قررت الحكومات في نحو 40 بلدًا، أن تجعل بنوكها المركزية أقل قدرة على الحد من تمويل البنوك المركزية. في الأمثلة الأكثر تطرفًا مثل بيلاروسيا والإكوادور ونيوزيلاندا، حولت الحكومات البنك المركزي إلى ممول محتمل لها.

مديرو البنوك المركزية كبش فداء:

في السنوات الماضية، حاولت الحكومات التأثير على البنوك المركزية بالضغط في اتجاه تخفيض نسب الفائدة، بالإدلاء بتصريحات تنتقد سياسات البنك المركزي أو تنادي بالاجتماعات مع قيادته.

في الوقت ذاته، ألقى السياسيون باللوم على مصرفيي البنوك المركزية بسبب عدة مرات فشلوا فيها بنظرهم، إذ لم يتوقعوا صدمات اقتصادية مثل الأزمة المالية في 2007-2009، وتجاوزوا حدود صلاحياتهم في التيسير الكمي، وتسببوا في تفاوت هائل أو عدم استقرار، وذلك عندما حاولوا إنقاذ القطاع المالي.

منذ منتصف 2021، وجدت بنوك مركزية كبرى صعوبات في الإبقاء على نسبة تضخم منخفضة، ما جعل السياسيين الشعبويين والمعرضين للديمقراطية يطرحون أسئلة عن مزايا فكرة ترك مسافة بين الحكومة والبنوك المركزية. إلا أن التفريط في استقلالية البنوك المركزية هو تاريخيًا طريق نهايته المحتومة زيادة التضخم.

اقرأ أيضًا:

ذروة التضخم ومعضلة البنوك المركزية

لماذا يُعد الانكماش أسوأ كوابيس البنوك المركزية؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: نور حمود

المصدر