لقد أخطأ الرواد من العلماء والفلاسفة والتقنيين مرارًا وتكرارًا في تنبؤاتهم عن التكنولوجيا. حتى آينشتاين لم يكن استثناءً إذ ادعى أنه لا يوجد أدنى مؤشر على أن التكنولوجيا النووية ستكون في المتناول. قبل أن يُنهي إنريكو فيرمي بناء أول مفاعل انشطار نووي في شيكاغو بعشر سنوات. بعدها بقليل، انقلب الإجماع إلى مخاوف من إبادةٍ نوويةٍ تامة وشيكة.

على غرار ذلك، يرى الخبراء اليوم أن الذكاء العام الاصطناعي سيسبب دمارًا وشيكًا، لكن يرد آخرون بحجة أن النماذج اللغوية الكبيرة قد بلغت بالفعل ذروة قوتها.

تنص أطروحة «ديفيد كولينجريدج» على أن محاولة التنبؤ بمخاطر التكنولولجيات الجديدة عبث. فما مدى قدرة صانعي القرار على الحد من المخاطر التكنولوجية للذكاء الاصطناعي.

يحذر كولينجريدج من تطور التكنولوجيا بطرقٍ يصعب التنبؤ بها. مع ذلك، فإن أحد مخاطر تطور الذكاء الاصطناعي معروف سلفًا، وهو ناتج عن التضارب بين الدافع الاقتصادي للشركة لتحقيق الربح من ملكيتها لنموذج الذكاء الاصطناعي وبين تمويل النموذج ونشره بشكل يحقق الفائدة للمجتمع.

إن النقاش حول المسائل التقنية بمعزل عن البيئة الاقتصادية الاجتماعية التي ستصمم فيها هذه النماذج وتشتغل لغاية الربح يتغاضى عن هذا التضارب. فالمخاطر الاقتصادية للذكاء الاصطناعي لا تتعلق فقط بتجنب «الاحتكار» أو «التفضيل الذاتي» أو «هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى»، بل بمناخ اقتصادي يحمل مخاطر يصعب التنبؤ بها، وبمحاولة الشركات أن تتحرك بسرعة وتكون سباقةً في الأرباح والهيمنة على السوق.

يتعلق الأمر أيضا بتعميم الاستفادة من القيمة التي يحققها الذكاء الاصطناعي ومنع احتكاره. فإتاحة أدوات الذكاء الاصطناعي للجميع تفسح المجال للمزيد من الإبتكار، وتشكل مناخًا من المشاريع والشركات الناشئة وأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة.

لقد أصبحت شركة Open AI لاعباً أساسيًا إذ بلغت أرباحها ملياري دولار وعدد مستعمليها الملايين. وهي بحاجةٍ إلى إعادة القيمة إلى مؤسسيها كي تضمن استمرارها وانتشارها والحفاظ على مناخ الإبتكار فيها.

الحط من الجودة لأجل تحقيق ربح أعلى:

عند النظر إلى التكنولوجيات الخوارزمية لمنصات التجميع القديمة (مثل أمازون وفيسبوك وغيرها) التي نُشرت في البداية لإفادة المستعملين، نجد أنها بُرمجت في نهاية الأمر لزيادة أرباح المنصة.

المشكلات التي انجرت عن وسائل التواصل الاجتماعي والبحث وخوارزميات نظام الاقتراح لم تكن يوما مشكلة هندسة، بل مشكلة متعلقة بتضارب الدوافع المالية وزيادة الأرباح مع تعيين الخوارزميات بشكل آمن ومنصف وفعال.

لكي نفهم كيف تحدد المنصات القيمة لنفسها وكيف يمكن أن نتجاوب معها، تحرّينا دور الخوارزميات والإعداد المعلوماتي الفريد من نوعه للأسواق الرقمية في استخلاص ما يعرف بالريع الاقتصادي من المستعملين والمنتجين. في النظرية الاقتصادية، يعرف الريع بأنه «ربح فوق العادي»، أي ربح يفوق ما يمكن تحقيقه في سوق تنافسية، ويعكس قدرةً على التحكم في مورد نادر. والمهم أن الريع يمثل عودةً إلى احتكار الملكية أو القوة، عوضًا عن الإنتاج في سوق تنافسية.

في المنصات الرقمية، ينتج عن استخلاص الريع تدهورٌ في جودة المعلومة التي تظهر للمستعمل، على أساس ملكية هذه المنصات لحق النفوذ إلى عدد كبير من الزبائن.

مثلًا، يعتمد ملايين مستعملي أمازون على خوارزميات البحث عن المنتج بما أنهم لا يستطيعون تفحص كل منتج على حدة. توفر هذه الخوارزميات الوقت والمال للجميع، فتساعد المستعملين على إيجاد المنتجات الأفضل بثمن أقل، وتتيح للمزودين الوصول إلى نطاق أوسع من الزبائن بواسطة البنية التحتية للتوصيل في أمازون وشبكة زبائنه الضخمة. جعلت هذه المنصات الأسواق أكثر نجاعة، لكن بمرور الوقت، تسبب التضارب بين الزيادة في الربح وبين تقديم القيمة للمستخدم في تشجيع المنصات على إساءة التصرف.

إعلانات أمازون:

ينقر المستعملون على نتائج المنتجات في أعلى الصفحة، حتى إن لم تكن أفضل النتائج، بل وإن كانت تعيينات. يسيء أمازون استغلال هذه الثقة في خوارزمياته، موجهًا انتباه المستهلك ونقراته إلى محتوى مدعوم أقل جودة ويجني من ذلك أرباحًا هائلة.

في المتوسط، كانت أكثر المنتجات التي ينقر المستعملون عليها معروضةً في إعلانات، وهي أغلى بنسبة 17% وأقل مرتبةً بنسبة 33% حسب خوارزميات أمازون المخصصة لتحسين الجودة والسعر والشعبية. فيدفع المزودون ذوي المنتجات الأجدر من حيث الجودة والسمعة المال لأمازون كي يحسن من ترتيب المنتج، فتنخفض أرباحهم وتزيد أرباح الموقع وترتفع الأسعار على حساب الزبائن.

ليس أمازون المثال الوحيد لهذا التحول من الهدف النبيل إلى نموذج أعمال استخراجي، إذ فضلت كل من «جوجل» و«ميتا» مصالحها الاقتصادية على ما وعدت به مستعمليها ومزودي منتجاتها ومطوري تطبيقاتها.

لكن ليست كل مداخيل الريع سيئة، حسب ما يقول الاقتصادي جوزيف شومبيتر. إذ تفوقت منصات التقانة الكبرى بفضل خوارزميات متفوقة ومبتكرة غير مسبوقة، والآن يفعل رواد الذكاء الاصطناعي في العالم نفس الشيء.

فرغم كون مداخيل الريع مُبرَّرةً حسب شومبيتر، فقد استعمل الرواد في السوق قوة الخوارزميات لحيازة أكبر قدر من القيمة التي تضيفها بيئة المزودين وأصحاب الإعلانات والمستعملون لزيادة الأرباح.

خُفضت أهمية تفضيلات المستعمل في الخوارزميات لصالح المحتوى الأكثر ربحية. أما بالنسبة لمنصات التواصل الاجتماعي، فكانت الأفضلية للمحتوى الأكثر إدمانًا بهدف زيادة الوقت الذي يقضيه المستعمل على المنصات، ولو على حساب صحته. بينما أُجبر صانعو المحتوى وأصحاب المواقع والتجار على تسليم المزيد من مداخيلهم لمالك المنصة، فتركزت الأرباح المتزايدة في أيدي بضع منصات ما جعل الابتكار أصعب للشركات الخارجية.

إجبار المنصات للشركات على دفع رسوم أكثر أمرٌ غير مُبرر، وهو إشارةٌ خطيرة على أن للمنصة قدرًا من النفوذ في السوق تستغله لاستخلاص ريعٍ لا تستحقه. يظهر آخر كشف لشركة أمازون (الربع الرابع لسنة 2023) نموا سنويًا بنسبة 9% في المبيعات على الإنترنت، مقابل زيادات في الرسوم بنسبة 20% لخدمات البيع من طرف ثالث و 27% للاعلانات.

إن استخدام التكنولوجيات الخوارزمية من قبل الشركات الكبرى بهدف استخلاص الريع ليس من المخاطر غير المعلومة كما يحددها كولينجريدج، بل من المخاطر الاقتصادية التي يمكن التنبؤ بها. فاستغلال مورد نادر من قبل مُتحكم واحد لغاية الربح أمر ضارب في القدم.

المخاطر التي يشكلها الجيل القادم من الذكاء الاصطناعي:

ستكون الضوابط التي نحددها للخوارزميات ونماذج الذكاء الاصطناعي محوريةً في توجيه النشاط الاقتصادي واهتمام الإنسان إلى غايات مفيدة، إذ ستشكل تفكيرنا وتعبيرنا عن أنفسنا، فتركيز القدرة على التحكم في الذكاء الاصطناعي لدى جهات ضيقة معنية بالربح فكرةٌ سيئة.

لكن المخاطر المتأتية من البيئة الاقتصادية للابتكار ليست حتمية، فبنية السوق تحددها السلطة التعديلية والمنشآت الخوارزمية للمنصات. تتدخل هذه العوامل في مدى تأثير الشبكات ووفورات الحجم والنطاق، بما فيها الفوائد العائدة من الهيمنة على السوق.

الميزات التقنية مثل إمكانية التشغيل على أنظمة رقمية متعددة، أو تحميل تطبيقات من مصادر غير متجر المنصة الرسمي، أتاحت للمستعمل قدرًا من السيولة للتنقل بين الأسواق، ومن ثم تمكن أية جهة مهيمنة من استغلال مستعمليها ومحيطها بشكل مستدام. وقد ساعدت بروتوكولات الإنترنت على إبقائها فضاءً مفتوحًا، إذ مكنت البرمجيات مفتوحة المصدر من الإفلات من الاحتكار في حقبة هيمنة الحاسوب الشخصي. فهل تنجح إمكانية التشغيل على أنظمة متعددة في جعل قطاع الذكاء سوقًا أكثر تنافسية وشمولًا؟

يمثل الإفصاح عن المعلومات أداةً أخرى قوية لتشكيل السوق، إذ يمكن إلزام شركات التكنولوجيا بالإدلاء بتفسيرات ومعلومات شفافة عن منتجاتها واستراتيجيات تمويلها. لو أُلزم فيسبوك مثلًا بالإفصاح عن مقاييس تشغيله للإعلانات، لربما حال ذلك دون استغلاله لخصوصية مستعمليه وبياناتهم لأجل الربح.

اليوم، ترفض Open AI وغيرها من مزودي نماذج الذكاء الاصطناعي الإفصاح عن مجموعات البيانات التي تستعملها لتدريب الآلة، بينما تُطرح أسئلةٌ حول التعدي على حقوق الطبع وعن أحقية تحقيق الربح من الأعمال الإبداعية المصنوعة بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

تتطور بنية السوق ومدى تأثيرها على توزيع الفوائد بتطور الأسس التكنولوجية التي تسمح للشركات بالتنافس في السوق. لذا يجب أن نتوقف عن محاولة التنبؤ بمخاطر معينة قد تظهر بتطور التكنولوجيا، ونحاول إعادة التوازن إلى الدوافع الاقتصادية الكامنة المؤسسة للابتكارات اليوم، من أجل تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي تدعم خلق القيمة وتوزيعها بشكل أكثر عدالة. يجب أن ندرك أن المخاطر التكنولوجية غالباً ما تنتج عن تنامي الدوافع الاقتصادية غير المتماهية كي نستطيع تلافي الأخطاء بسرعة.

اقرأ أيضًا:

إقالة سام أولتمان المفاجئة: ماذا تعني لسباق الذكاء الاصطناعي؟

خمسة وعشرون عامًا على إطلاق محرك بحث غوغل، هل سيصمد أمام الذكاء الاصطناعي؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر