أمضى ألبرت آينشتاين سنواته الأخيرة محاولًا توحيد جميع قوى الطبيعة، لكنه مات خائب الأمل، وستسجل محاولاته في التاريخ على أنها أكبر إخفاقاته. إن حلم آينشتاين الخائب قد يصبح أخيرًا انتصاره الأكبر، إذ تعيد مجموعة صغيرة من علماء الفيزياء النظرية العمل على أفكاره القديمة. قد لا تُجمع بالضرورة كافة القوى في الطبيعة معًا، لكن من الممكن أن تفسّر بعض أكثر المسائل إلحاحًا التي تواجه العلم الحديث.
آينشتاين ليس كافيًا
تُعد أنجح نظرية للجاذبية عرفتها البشرية هي نظرية النسبية العامة، إذ أمضى آينشتاين أكثر من سبع سنوات في تطويرها، وكانت تستحق الانتظار. تبدو النظرية النسبية من الخارج بسيطة بصورة مخادعة. كل دراما الكون تحدث في مرحلة كبيرة رباعية الأبعاد تسمى الزمكان، والمادة والطاقة هما ممثلا هذه الأحداث.
تشوّه المادة والطاقة الزمكان، إذ يتسببان في التوائه وانحنائه، هذا الانحناء بدوره يوجّه تصرفات المادة والطاقة.
وها هي: النظرية النسبية! الحوار المستمر بين طور الزمكان والمادة والطاقة هو ما نراه قوّة الجاذبية.
تخطت هذه النظرية كافة اختبارات الرقابة التي مرت بها، ما جعلها تصمد مدة قرن من تاريخ ميلادها. توقعت النظرية وشرحت ظواهر غريبة في الكون، بما فيها انحناء الضوء حول الأجسام الضخمة، وتشكّل الثقوب السوداء، مع معرفتنا أنها متصدعة، فبينما تقول النسبية العامة إن الثقوب السوداء يجب أن توجد، فإنها تنهار تمامًا عند محاولتها لوصفها.
ليس لدينا أي وصف للجاذبية في المستوى دون الذري، إذ تسيطر ميكانيكا الكم في هذا المقياس، فتقوى الجاذبية ويصغر مداها، لا يمكن للنسبية العامة وضع التوقعات، الرياضيات عندها تنهار ببساطة.
هذه المواضع التي نعلم أن النسبية العامة تنهار عندها.
بالذهاب أبعد من ذلك، لاحظ أيضًا رواد الفضاء ظاهرتين لا يمكن تفسريهما كليًا عبر النسبية العامة، إن معظم المادة في الكون -المادة المظلمة- لا تتفاعل مع الضوء، وأن الكون يتوسّع بتسارع مطّرد، ويعتقد أن السبب هو الطاقة السوداء الغير مكتشفة بعد.
لكي نفسر المادة والطاقة المظلمة، فنحن أمام خيارين، إما أن النسبية العامة صحيحة مطلقًا لكن كوننا مليء بمواد غريبة، أو أن النسبية العامة خاطئة تمامًا.
الانحناء
حاول آينشتاين بنفسه تجاوز حدود النسبية العامة، لكنه لم يكن متحفزًا بأحاجي الثقوب السوداء أو تسارع الكون، ولم يعلم أحد حينها عن وجود هذه الأشياء، عدا كونها تحديات نظرية كبيرة.
لكن حافز آينشتاين كان أكبر، وهو محاولة توحيد جميع قوانين الفيزياء المعروفة في إطار رياضي واحد.
في حالته، لديه الجاذبية من جهة، ممثلة في النسبية العامة التي وضعها بنفسه، ومن الجهة الأخرى كانت الكهرومغناطيسية الممثلة بمعادلات ماكسويل الواصفة لكل شيء من المغانط والشحنات الكهربائية وصولًا للضوء نفسه.
في محاولاته لوضع النظرية الخارقة لكل شيء، قدم آينشتاين «النسبية العامة 2». إذ اهتمت النسخة الأساسية من النسبية بانحناءات الزمكان فقط، بينما النسخة الجديدة اهتمت أيضًا بالتواء الزمكان أو الانفتال.
لم يكن بحاجة لذكر الفتل في نظريته الأساسية، كون الانحناءات كانت كافية لتفسير الجاذبية. لكنه حاول تفسير ما هو أكثر من الجاذبية، وكان عليه أن يضيف بعض التأثيرات.
أمل آينشتاين أن الالتواءات ستكون متعلقة بطريقة ما بالكهرومغناطيسية -الطريقة نفسها التي تتعلق فيها انحناءات الزمكان بالجاذبية- لكن للأسف، لم يجد أي حلول وتلاشت نظريته الجديدة معه.
لكن لم يتخلّى الفيزيائيون عن الحلم، حاولوا توحيد الفيزياء منذ حينها.
واحدة من المفاهيم المدعمّة بصورة كبيرة تسمى «نظرية الأوتار» التي تدعي أن الجزيئات جميعها أوتار صغيرة جدًا تهتز. وأن كوننا يملك أبعادًا مكانية إضافية جميعها صغيرة وملتفة.
لم تكن نظرية الأوتار مبنية على فكرة آينشتاين الأساسية حول التواء الزمكان، لكن الفيزيائيين الآن سيلقون نظرة ثانية على هذه الفكرة التي تسمى الجاذبية المتوازية.
العمل بالتوازي
جاءت كلمة «متوازية» من عمل آينشتاين الأساسي الذي درس فيه طبيعة مسافة الخطوط المتوازية في إطار عمله الهندسي، مكتشفًا كيف أثرت انحناءات والتواءات الزمكان في حركة المادة والطاقة.
لا يعد الفيزيائيون في أيامنا هذه أن الجاذبية المتوازية يمكنها توحيد الفيزياء، حتى آينشتاين بنفسه تخلى عن الفكرة في النهاية، لكن من الممكن أن تكون مرشحًا مثيرًا للاهتمام بنظرية جديدة حول الجاذبية، لأن الباحثين النظريين استخدموا الجاذبية المتوازية لتفسير بعض الأمور مثل تسارع توسع الكون والفترة الباكرة بعد الانفجار العظيم عندما انتفخ الكون، التي تسمى “التضخم” وغيرها من المسائل مثل التضارب الملحوظ في قياس نسبة توسع الكون.
بعبارة أخرى، أثبتت الجاذبية المتوازية قدرتها على التنبؤ بصورة جيد.
لكن ماذا عن الأحلام القديمة حول النظرية الموحدة؟
قد تكون الجاذبية المتوازية نهجًا جديدًا مفيدًا وشيّقًا للجاذبية، لكنها لا تقربنا من فهم المزيد من القوانين الأساسية في الفيزياء.
بدلًا من ذلك، يستخدم الفيزيائيون نظرية الأوتار لهذا الغرض، لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل نظرية الأوتار – التي تدّعي وجود نظرية أساسية شاملة لكل شيء- متصلة بطريقة ما مع الجاذبية المتوازية؟
بكلمات أخرى، لو كان بإمكان الجاذبية المتوازية حل جميع المسائل المعقدة مثل المادة والطاقة المظلمة، هل يكون ذلك نتيجة نظرية الأوتار، أم أن هذين خطان منفصلان لا يملكان أية صلة فيما بينهم؟
بدأ العلماء النظريون مؤخرًا ربط الجاذبية المتوازية مع نظرية الأوتار، مقدمين حافزًا للنظرية ضمن الكون الوتري، ذكر في ورقة بحثية ضمن مجلة arXiv التي صدرت في نوفمبر، وأظهروا لنا في عملهم كيف يمكن أن تكون نظرية الجاذبية المتوازية نتاج نظرية الأوتار.
إنها فكرة مهمة؛ لأن نظرية الأوتار يجب أن تكون قادرة على تفسير كافة قوانين الفيزياء، ولو كانت نظرية الجاذبية المتوازية نسخة أفضل من النظرية النسبية العامة، وتبين في النهاية أن هذا صحيح، إذن يجب أن تكون قادرًا على استنتاج التوازي من الرياضيات في نظرية الأوتار.
إليك مثالًا. لنفترض أن الشرطة تعرفت على سلاح الجريمة في موقع جريمة (النسبية العامة).
الآن لديهم مشتبه به أساسي (نظرية الأوتار) الذي يريدون ربطه بسلاح الجريمة.
لكن تحليلًا جديدًا من موقع الحادث يُظهر أن سلاحًا آخر (الجاذبية المتوازية) هو الذي استخدم في الجريمة. هل يمكن للمشتبه به الأساسي أن يبقى مرتبطًا بسلاح الجريمة الجديد؟
الجواب بالمختصر: نعم
هنالك الكثير من العمل المتبقي لإنجازه.
نظرية الأوتار لم تنته بعد (وقد لا تنتهي، في حال لم نجد حلول رياضية ثابتة)، لذا فأي صلة يمكن ربطها بالواقع هي مفيدة.
لو اتضح أن نظرية الجاذبية المتوازية مفيدة في تفسير بعض النقائص الحالية في النسبية العامة، وأنه يمكننا استخلاص التوازي من نظرية الأوتار، ستكون هذه خطوة إضافية في درب تحقيق حلم آينشتاين الأخير في التوحيد، ليس بالشكل الذي تصوره، لكن ما زال يحتسب.
اقرأ أيضًا:
لماذا لا يمكن اعتبار نظرية الأوتار صحيحة ولا حتى خاطئة؟
أينشتاين ونظرية النسبية العامة
ترجمة: حسين عباس
تدقيق: تسبيح علي