تشير الأدلة إلى أن البشر بدؤوا بشرب البيرة منذ 13000 سنة، أما الكحول المقطر فقد ظهر بعد ذلك بكثير. إن الاجتماع مع الآخرين للتواصل الاجتماعي وشرب البيرة أو احتساء كأس من النبيذ ليس نشاطًا حديثًا. في الواقع كان البشر يصنعون المشروبات الكحولية ويحتسونها منذ العصور القديمة. استهلك البشر الكحول عبر التاريخ لأسباب عدة، جزءًا من الشعائر دينية أو من أجل الترابط الاجتماعي، أو لأهداف طبية، أو لإمتاع أنفسهم ببساطة. فيما يلي بعض أقدم الأمثلة المعروفة على صنع البشر للمشروبات الكحولية واستهلاكها.

1- البيرة في فلسطين، 11,000 قبل الميلاد:

اكتُشف أقدم دليل على الكحول من صنع الإنسان في العالم في موقع دفن في كهف رقيفت بالقرب من حيفا الحالية في فلسطين، حيث دُفن النطوفيون وهم مجموعة من الصيادين وجامعي الثمار في شرق البحر المتوسط. حلل باحثون من جامعة ستانفورد بقايا ملاط حجري عمره 13000 عام عُثر عليه في الكهف، ولاحظوا وجود دليل على تخمير البيرة.

في مقالة نُشرت في مجلة العلوم الأثرية عام 2018، افترض المؤلفون أن النطوفيين صنعوا البيرة طقسًا في الأعياد، تكريمًا لأفراد مجتمعهم المتوفين.

قال لي ليو، أستاذ علم الآثار الصيني في جامعة ستانفورد: « يشير هذا الاكتشاف إلى أن صنع الكحول لم يكن بالضرورة نتيجة فائض الإنتاج الزراعي، لكنه طُوّر لأغراض الطقوس والاحتياجات الروحية، على الأقل إلى حد ما، قبل الزراعة». لكن نسخة النطوفيين من البيرة «لم تكن تشبه ما نشربه اليوم»، بل كانت تشبه العصيدة أكثر من كونه مشروبًا منعشًا.

2- الساكي في الصين، 7000 قبل الميلاد:

أجرى فريق من الباحثين من جامعة بنسلفانيا بقيادة باتريك ماكغفرن عالم الآثار الجزيئي، تحاليل كيميائية لبقايا وجدت في فخار قديم من جياهو، وهي قرية من العصر الحجري الحديث في وادي النهر الأصفر في الصين. كشفت التحاليل أن مشروبًا مخمرًا مختلطًا من الأرز والعسل والفواكه (ربما العنب) أنتج في وقت مبكر يصل إلى 7000 قبل الميلاد. تقدم النتائج التي توصل الفريق إليها دليلًا مباشرًا على المشروبات المخمرة في الثقافة الصينية القديمة، التي كانت ذات أهمية اجتماعية ودينية وطبية كبيرة.

ماذا كان شكل هذا المشروب الكحولي المبكر؟ نظرًا إلى احتوائه على العسل، شبهه البعض بمشروب الميد، في حين يرى البعض الآخر أنه نوع من الساكي لأنه مصنوع أيضًا من الأرز. وفقًا لباتوك، كان المشروب مصنوعًا غالبًا من توت الزعرور وهو من أنواع التوت الذي يتخمر طبيعيًا، على هذا فهو ليس نبيذًا بالمعنى الدقيق.

3- النبيذ في جورجيا، 5980 قبل الميلاد:

عُثر على بقايا أوانٍ فخارية يعود تاريخها إلى 5980 قبل الميلاد، يقول باتيوك إن التنقيب في موقعين أثريين بالقرب من تبليسي في جورجيا هو أقدم دليل على النبيذ التقليدي المصنوع من العنب. نشر فريق الباحثين نتائج بحثهم إذ عُثر على أدلة على النبيذ في بيئات محلية وفي مواقع متعددة مرتبطة بطبقات اجتماعية مختلفة، يشير هذا إلى أن النبيذ كان مشروبًا شائعًا في المجتمع، وأن المزارعين العاديين كانوا يصنعونه.

عُثر على ثماني أواني فخارية بها بعض بقايا النبيذ، يُرجح أنها استخدمت للتخمير والتعتيق وتخزين النبيذ، بعض هذه الأواني كانت مزخرفة بصور العنب ورجال يرقصون. احتوت البقايا على آثار أحماض تشير إلى نوع العنب الذي صُنع منه النبيذ.

4- شيشا، أمريكا الجنوبية، 5000 قبل الميلاد:

وفقًا لماكغفرن، يعود تاريخ بعض أقدم الفخار المعروف من منطقة الإنديز في أمريكا الجنوبية إلى نحو 5000 قبل الميلاد. من المحتمل أنه كان يُستخدم لتخزين الشيشا، وهو مشروب يُصنع أساسًا من الذرة المخمرة، إلى جانب المانيوك والفواكه البرية والصبار والبطاطس. كانت الذرة محصولًا مقدسًا لدى الإنكا والحضارات الأخرى في تلك الفترة، واستُخدمت الشيشا نوعًا من العملات.

في تلك الآونة كانت المزارع المحلية الضخمة، معظمها على التلال شديدة الانحدار والمدرجات والسهول المروية للصحاري والوديان، مكرسة لإنتاج الذرة. كانت الزراعة مدعومة إلى حد كبير بالشيشا، إذ يعمل السكان المحليون في الأرض مقابل المشروبات. كانت الشيشا تُستهلك بكميات في العمل في الزراعة وبعد الانتهاء، وكانت الشيشا رفيقة الاحتفال والغناء والرقص والمرح.

5- الخمور المقطرة في أوروبا، 1400-1600

في حين أن الكحول المخمر طبيعيًا مثل البيرة والنبيذ ظهر منذ العصور القديمة، فإن الخمور المقطرة لم تظهر إلا منذ بضع مئات السنين فقط. يُعد التقطير تطورًا حديثًا في سياق علاقتنا بالكحول.

كان التقطير معروفًا منذ العصور القديمة، وقد وصفه أرسطو، وفُهمت مبادئه منذ فترة طويلة، لكن تنفيذه كان صعبًا عمليًا، لأنه يتطلب الاحتفاظ بالسائل عند درجة حرارة ثابتة.

ظهرت محاولات محدودة لتقطير الكحول في المجتمعات الصينية والهندية واليونانية والمصرية، لكن لم تُستهلك المشروبات الروحية على نطاق واسع إلا بعد التطورات التقنية العربية في أواخر العصور الوسطى. كان لابتكار الطباعة دور كبير في انتشار التقطير. إذ كانت الوصفات والتعليمات تقتصر أساسًا على الأديرة وكليات الطب والصيدليات.

نُشر كتاب The Virtuous Art of Distillation بقلم هايرانومس برانشوي في ألمانيا عام 1500، ويعد أول كتاب رئيسي عن العملية، ويركز على التقطير الطبي. بحلول القرن السابع عشر، كان بإمكان الشخص العادي في أوروبا الوصول إلى الخمور المقطرة مثل الجن والرم، كان ذلك بمثابة تطور حقيقي. إذ إن المشروبات المصنوعة عن طريق عملية التخمير الطبيعية مثل البيرة والنبيذ لا تتجاوز نسبة الكحول فيها حدًا معينًا.

حوّل التقطير المشروبات الروحية إلى سلعة، إذ تدوم الخمور المقطرة فترة طويلة ويمكن نقلها، ما جعل الناس يحولون فائض الحبوب إلى خمور مقطرة، وصار بإمكانهم نقلها إلى مسافات طويلة.

اقرأ أيضًا:

لماذا نُصاب بصداع بعد شرب النبيذ الأحمر؟

كيف يحسّن الذهب مذاق النبيذ؟

ترجمة: أميمة الهلو

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: باسل حميدي

المصدر