البداية: حصن اللوفر:
بُنِي اللوفر في أواخر القرن الثاني عشر عندما بدأ فيليب الثاني أو فيليب أغسطس -أول شخص يصبح رسميًا ملكًا لفرنسا وأحد أنجح ملوك أوروبا في العصور الوسطى- ببناء مركز عسكري دفاعي قرب حدود باريس الغربية آنذاك على طول ضفة نهر السين.
صُمِم اللوفر بهدف منع أي غزو من الشمال، وشملت منشأته حصونًا في كل زاوية وخندقًا مائيًا يحيط به وبرجًا ضخمًا محصنًا بارتفاع 98 قدمًا في وسطه.
في القرن الرابع عشر ومع توسع المدينة خارج حدودها خلال عهد فيليب، أُنشئَت سلسلة جديدة من الدفاعات في ضواحي باريس واقتصر استخدام الحصن لأهداف دفاعية. وفي يومنا الحالي يستطيع زوار المتحف رؤية بقايا جزء من القلعة التي تعود للعصور الوسطى في القرن الثالث عشر.
تدمير حصن فيليب لبناء مكان إقامة ملكي مكانه:
عدَّل تشارلز الخامس التصميم الأصلي للبناء في القرن الرابع عشر، لكن اندلاع حرب المئة عام عطل ما كان بجعبته من خطط للوفر. ومع اختيار الملوك اللاحقين إقامة منزل في مكان آخر، تُرك اللوفر دون استخدام حتى عام 1527 عندما أمر فرانسيس الأول بإزالة البناء الأصلي لصالح بناء مجمع فخم وجديد على طراز عصر النهضة.
كان فرانسيس حاكمًا متنورًا من حكام عصر النهضة وشاعرًا هاويًا ورجلًا متعلمًا مثقفًا ساعد بتوحيد اللغة الفرنسية وكان أول ملك أوروبي في التاريخ يقيم علاقات دبلوماسية مع الإمبراطورية العثمانية وبوصفه راعيًا للفنون وطد فرانسيس علاقةً مقربةً مع ليوناردو دافينشي وأقنعه بالانتقال إلى فرنسا.
بدأ العمل الذي أمر به فرانسيس في اللوفر واستمر لقرن من الزمن؛ إذ صمم المهندسون المعماريون المشهورون عشرات الأجنحة الجديدة والأبنية المنفصلة التي وصلت فيما بينها سلسلة من الأروقة والمقصورات أعطت البناء شكلًا خارجيًا موحدًا.
أبنية اللوفر تُهجَر وتُترَك لتتعفن:
بعد إنهاء بناء قصر فرساي، نقل البلاط الفرنسي مركزه بعيدًا عن باريس واللوفر تاركًا إياه غير منتهي البناء ودون عناية أو ترميم. بقيت تلك الأبنية مفتوحةً واستضافت جماعات ثقافية كان من بين أفرادها رسامون ونحاتون وكتُّاب.
بعد أكثر من قرن عاد البناء ليبدأ في اللوفر مجددًا مع إنفاق ملوك البوربون المال بسخاء على الموقع والمحتويات الفنية داخله حتى سقوط الملكية وبداية الثورة الفرنسية عام 1789.
ومع إيداع الملك المخلوع وعائلته السجن في قصر التويلري المجاور، أسس الحكام الجدد مجلسًا سنَّ قرارًا بنقل اللوفر إلى عهدة الحكومة من أجل افتتاحه متحفًا وطنيًا للعامة. فتح اللوفر أبوابه في العاشر من أغسطس 1793 ليعرض أكثر من 500 لوحة والعديد من الفنون الزخرفية أكثرها صادرته الحكومة الجديدة من العائلة الملكية وطبقة النبلاء الفرنسية.
لم تُعرَض الموناليزا دائمًا في متحف اللوفر في باريس:
صارت لوحة الجوكندا -أحد أشهر اللوحات في العالم وغيرها من أعمال دافينشي- ضمن مجموعة الأعمال الفنية الخاصة بفرانسيس الأول. وحسب الموروث الشعبي الفرنسي فإن فرانسيس كان بجانب دافينشي عندما قضى نحبه. وبعد وفاة الفنان عام 1519 اشترى الملك اللوحة من مساعده.
وبدلًا من أن تشرِّف لوحة الجوكندا جدران اللوفر وتزينها، أمضت سنوات تنتقل فيها بين القصور الملكية؛ إذ قضت بعض الوقت في قصري فونتوبيلو وفرساي. ولم تستقر الجوكندا في اللوفر على نحو دائم حتى سقوط الملكية وتحويل المجمع ليصبح متحفًا عامًا. وهناك ظلت لوحة الموناليزا باستثناء بعض الأوقات التي تغير فيها مكانها؛ إذ عندما سيطر نابليون بونابارت على مقاليد الحكم في فرنسا، أمر بتعليق اللوحة في غرفة نومه، ثم نُقلَت اللوحة بعيدًا إلى مكان آمن في أثناء الحرب البروسية-الفرنسية والحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1911 سرق اللوحة مجرم إيطالي في أثناء عرضها على جدران المتحف؛ وقد ادعى أن الدافع وراء سرقة اللوحة إعادتها إلى موطن دافينشي الأصلي. ولسنتين ظل المتحف يستقبل الزوار ومكان لوحة الموناليزا شاغرًا.
وبعد عودتها لم تغادر اللوحة متحف اللوفر مجددًا لخمسين عامًا حتى استطاعت السيدة الأولى جاكلين كينيدي إقناع مسؤولي المتحف بالسماح بمغادرة اللوحة في جولة تشمل متاحف في مدينة نيويورك والعاصمة واشنطن دي سي وذلك من أجل مناسبات ضخمة أصبحت معروفةً بوصفها أول معارض متحفية رائجة.
نابليون بونابرت يسمي متحف اللوفر على اسمه لمدة مؤقتة:
عندما وصل نابليون للسلطة أمر بإعادة بتسمية مجمع اللوفر على اسمه تشريفًا له، وبعدها امتلأ متحف نابليون بغنائم الحرب الفنية مع اجتياح جيشه أوروبا.
ومن بين التحف التي وصلت إلى باريس مئات اللوحات والمنحوتات نذكر منها مجموعة الأحصنة البرونزية القديمة التي جلبها نابليون من واجهة كاتدرائية القديس مرقس في فينيسيا (البندقية) التي أصبحت جزءًا من قوس النصر خارج متحف اللوفر وتمثالًا خيليًا آخرًا كان ينتصب أعلى بوابة براندنبورغ في برلين.
أمر نابليون بنقل تمثال كوادريغا Quadriga إلى باريس ليُعرَض في اللوفر، لكن بدلًا من ذلك أُهمِل في مخزن حتى سقوط نابليون عام 1814. وقد تلا سقوط نابليون عن عرش فرنسا عودة أكثر من 5000 قطعة فنية إلى مالكيها الحقيقيين وعودة أكبر متاحف باريس ليحمل اسمه الحالي.
اللوفر يصبح مركزًا لتبادل المعلومات حول الأعمال الفنية التي سرقها النازيون في أثناء الحرب العالمية الثانية:
بعد 130 عامًا اجتاح جيش كبير آخر أوروبا، وهذه المرة كانت فرنسا وجهته. ولذلك بدأ القائمون على المتحف بتنفيذ إخلاء عاجل لعشرات آلاف القطع الفنية وكان أولها لوحة الموناليزا. انطلقت قافلة مكونة من أكثر من 30 شاحنةً نحو الريف الفرنسي لتحمي تلك القطع الفنية في سلسلة من القلاع الخاصة والآمنة.
بعد الغزو الألماني لباريس، أمر المسؤولون الألمان بإعادة فتح متحف اللوفر الذي كان فارغًا تمامًا؛ إذ افتقدت الجدران اللوحات المعروضة عليها أما الممرات فلم يجدوا فيها سوى المنحوتات والتماثيل صعبة الحركة والنقل وحتى تلك التماثيل غُطيَت بأغطية سميكة من الخيش.
مع عدم وجود تحف وقطع فنية لعرضها، استحوذ النازيون على جزء من المتحف ليصبح مركزًا لجمع المعلومات حول القطع الفنية الشخصية المصادرة من العائلات الفرنسية الغنية -وخاصةً اليهودية منها- وتصنيفها وتغليفها وشحنها إلى ألمانيا.
تحويل اللوفر لمركز حجز القطع الفنية ومصادرتها لم يكن أكبر عملية سرقة في باريس في أثناء الحرب العالمية الثانية، ففي ظل قيادة هيرمان غورينغ تعامل متحف جو دي بوم المجاور مع آلاف التحف الفنية المصادرة. وقد خُصِص قسم كبير منها لتصبح من ضمن المجموعات الشخصية الخاصة بالقطع الفنية للقيادة الألمانية، أما تلك التي عُدَّت منحطة أخلاقيًا مثل أعمال بيكاسو وسلفادور دالي، فبيعت لجامعي تحف غير ألمان أو أُحرقَت في محرقة في متحف جو دي بوم عام 1942.
وبفضل شجاعة أمين متحف كان عميلًا مزدوجًا في أثناء عمليات السلب والسرقة، استُعيدت كثير من القطع الفنية التي وصلت إلى متحف جو دي بوم.
عارض متحف اللوفر العمل مع النازيين، إلا أنه لم يكن أفضل منهم في إعادة قطعه الفنية الضائعة إلى أوطانها الأصلية. وبعد أكثر من 70 عامًا على زحف الألمان نحو باريس يواجه اللوفر هجومًا ونقدًا لاذعًا لدوره في أكبر عملية سرقة ثقافية في التاريخ إضافة إلى إحجامه عن إعادة القطع الفنية المتنازع عليها.
اقرأ أيضًا:
لويس السادس عشر: آخر ملوك فرنسا
ترجمة: طارق العبد
تدقيق: أحلام مرشد